ضوء في نهاية نفق الاقتصاد - محمد الهوارى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 6:07 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضوء في نهاية نفق الاقتصاد

نشر فى : الجمعة 3 فبراير 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 3 فبراير 2023 - 8:40 م
بحكم مهنتى تكون أرائى فى أحيانٍ كثيرة مخالفة لإجماع الآراء، حتى آراء المتخصصين. هو اختلاف مؤقت حيث أقوم بدراسة الاتجاهات المبكرة للاقتصاد والسوق حتى أستطيع تحديد الوقت المناسب للاستثمار، ثم يبدأ هذا التوقع فى التبلور والتحقق على أرض الواقع ويصبح الإجماع مشابها لتوقعاتى. وهذه لحظة لا تدوم، حيث يتوجب علىَّ حينئذ أن أراجع المعطيات وأقرر إذا كان هناك توجه جديد تفرضه الظروف، وإذا حدث ذلك أعود لأكون مخالفا لإجماع الآراء من جديد. ثمة شىء من هذا يحدث الآن؛ حيث إننى كنت من أوائل وأشد المحذرين من مشاكل اقتصادية قادمة فى مصر لدرجة توقف الصناديق التى أقوم بإدارتها عن عمل استثمارات بها منذ عام ٢٠٢١، وذلك بعد أن وجهنا أكثر من نصف تلك الاستثمارات إلى مصر فى أوقات سابقة. فى هذا الوقت قوبلت توقعاتى باستهجان من الكثير من المتخصصين والأصدقاء المقربين، واتهمت وقتها أننى شديد التشاؤم بلا مبرر. وخلال الشهور القليلة الماضية قرأت تحليلات كثيرة صدرت عن بنوك الاستثمار الأجنبية وحتى المحلية بترسانتها اللا نهائية من المحللين والمتخصصين وكانت كل توقعاتى مخالفة لهم، ولكن ثبت صحة رأيى بنسبة كبيرة بالمقارنة بتوقعات بنوك الاستثمار. لا أستعرض هنا هذه الحقائق كإنجازات شخصية ولكن كمقدمة ضرورية لما سأقوم بتناوله فى هذا المقال؛ حيث إننى أجد نفسى الآن من جديد فى نفس الوضع ولكن على الجانب الآخر حيث إننى أجد أننا أخيرا وبعد شهور طويلة نرى ضوءا فى نهاية النفق.
فى الأسبوع الثانى من شهر يناير الجارى وقع حدثان ضخمان كان من شأنهما أن يغيرا موقفى كمدير استثمار؛ من التخوف من الاستثمار فى مصر إلى البدء فى الترقب لتحين فرصة استئناف الاستثمار فيها مجددا. أما الحدث الأول فهو نشر تقرير صندوق النقد الدولى عن برنامجه مع مصر. هذا التقرير فى تقديرى هو أول وثيقة شاملة تقدم بوضوح وشفافية الموقف الحالى للاقتصاد المصرى وخطة واضحة محددة المعالم والبيانات للخروج من المأزق الحالى. هو تقرير شديد الشفافية صادر عن جهة موثوق بها وهو ما ناديت بضرورة توافره مرارا على مدار أكثر من عام. تأثير هذا التقرير على خريطة الاستثمار سيكون فى تقديرى أسرع وأقوى من كل وثائق الترويج للاستثمار Pitch Decks التى رأيتها من الحكومة خلال الشهور الماضية. بالمناسبة أغلب وثائق الترويج للاستثمار التى رأيتها على مدار الفترة الماضية لا يصح أن تخرج للضوء فمستواها متواضع ويتعين على الحكومة الاستعانة بالمتخصصين المصريين داخل البلاد وخارجها فى إخراج هذه الوثائق.
أما الحدث الثانى فهو ما يبدو أنه أخيرا تعويم كامل وحقيقى للعملة المصرية إذا استمر وتمت إدارته بنجاح فسيصبح أداة نقدية هامة جدا لامتصاص الصدمات الخارجية وكذلك تحسن مستوى الأداء الاقتصادى. هو الإجراء الأصعب تنفيذا حتى إن صندوق النقد يتوقع وجود الكثير من المقاومة للنظام الجديد لأن الاعتياد عليه من جميع المتعاملين محليين وأجانب سيحتاج وقتا طويلا ولكن استمراره مع تطوير آليات السوق، مثل العقود الآجلة، سيجعلنا فى مصاف الدول الأكثر جذبا للاستثمار.
فى مقال سابق أوضحت أننى أتوقع دخول الاقتصاد العالمى فى مرحلة جديدة هى الأصعب فى الدورة الاقتصادية الحالية وهى مرحلة التباطؤ الذى من الممكن بسهولة أن يتحول إلى ركود عالمى. هى مرحلة ستشكل ضغطا على جميع دول العالم وبالأخص الدول النامية وبالذات التى تعانى من مشاكل هيكلية. كنت شديد التخوف من هذه المرحلة ولكن الآن مع وجود رؤية مفصلة معلنة ونظام نقدى أكثر مرونة فأنا أقل تخوفا من هذه المرحلة. بالتأكيد سنعانى من بعض الضغط فيها ولكن مع ذلك فقد انتهت أسوأ مخاوفى التى كانت ستهدد الكيان الاقتصادى لمصر بالدخول فى نفق شديد الظلام. أما بعد هذه المرحلة والتى يحتمل جدا أن تشهد ضغطا على العملة وعلى أسعار الأصول والسندات المصرية فأتوقع أن تدخل مصر مرحلة استقرار نسبى نشهد بعدها خلال العام القادم ــ ولأول مرة فى تاريخنا ــ قيمة الجنيه المصرى وهى ترتفع أمام الدولار. هذا التوقع ليس كالوعود التى أطلقها بعض غير المتخصصين الذين أقسموا على ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار على شاشات التليفزيون دون تقديم أى دليل واقعى أو علمى، ولكنه توقع مبنى على خبرتى بالأسواق الناشئة والتى طبقت نظما نقدية مشابهة.
لكن هذا التوقع المتفائل لا يخلو من بعض المحاذير:
أولا: هذا ليس تفاؤلا فوريا فالفترة الأصعب فى الاقتصاد العالمى وهى فترة التباطؤ لم تبدأ بعد وبالتالى فهذا المقال عن النور فى نهاية النفق، أما الخروج من النفق فما زال يبعد قليلا، ربما عدة شهور.
ثانيا: يتعين علينا تنفيذ الخطة بحذافيرها وعدم الحياد عنها بدون إيجاد بدائل واقعية وواضحة، لأن غير ذلك ستكون تكلفته غالية جدا. لكن أصدقكم القول إننى هذه المرة أكثر تفاؤلا وذلك لصعوبة الموقف من جهة ومن جهة أخرى لأن الخطة الاقتصادية وحزمة المساعدات المقدمة من صندوق النقد والجهات الأخرى وخاصة الدول الخليجية تبدو وحدة واحدة وأى حيد عنها فمن شأنه ألا يهدد برنامج الصندوق فقط ولكن من شأنه أيضا أن يهدد الدعم الخليجى المكون من استثمارات جديدة بمليارات الدولارات خلال ثلاث سنوات ولكن الأخطر هو المخاطرة بتجديد الودائع الخليجية الضخمة لدى البنك المركزى والتى من شأنها أن تهدد الاحتياطى النقدى. إذن فالالتزام بالخطة أصبح أمرا وجوديا بالنسبة لنا.
ثالثا: إذا أصبحت عملتنا حرة التداول فيجب أن نتفهم آليات السوق ومن ضمنها ضرورة انتقاء الرسائل والتصريحات الرسمية بعناية فالسوق تتعلق بكل كلمة من مسئول. مثال على ذلك اجتماعات الفيدرالى الأمريكى والمؤتمر الصحفى الذى يعقده رئيس الفيدرالى بعدها بل ونشر محضر الاجتماع بعدها بأسابيع. فكل كلمة أو إشارة تؤخذ بجدية فى ميزان لا يرحم هو ميزان السوق الذى قد يرتفع أو ينخفض بمقدار مليارات الدولارات فى دقائق. شىء من هذا من الممكن أن يحدث للعملة سواء سلبا أو إيجابا ولذلك يتوجب الحرص.
رابعا: التغيرات الاقتصادية العميقة التى تشهدها مصر حاليا لها تبعات اجتماعية وسياسية تحتاج التعامل معها بحنكة وسرعة. أى تأخر فى مراعاة هذا البعد الهام يزيد من المخاطر على المدى المتوسط والبعيد بينما التعامل معها يحول تفاؤلنا بالمرحلة القادمة من تفاؤل مرحلى إلى تفاؤل دائم.
نرجو أن يكون هذا البرنامج بداية عهد اقتصادى جديد يمثل إطلاق القدرات الكامنة للاقتصاد المصرى ويجعله مثالا يحتذى للدول النامية لسنوات قادمة.
محمد الهوارى مدير صناديق استثمار دولية
التعليقات