العزيز فادي
كان يفترض أن نتواصل يوم الثلاثاء الماضي لنؤكد موعد لقائنا. هذا ما تأكدت منه عندما نظرت إلى آخر حواراتنا على واتساب. وقد شاء القدر أن أكون جالسا في جنازتك في اليوم ذاته بعد أن غادرتنا دونما سابق إنذار أو مرض أو حادث أو مبرر من تلك التي كثيرا ما تسبق قرارا يؤخذ في مكان ما بانسحابنا من هذه الحياة. توقف قلبك فجأة عند الفجر ومعها توقف سيال حياة متدفق: قوافلك العلاجية التي كنت تأخذها لفقراء مصر في البقاع النائية مصحوبا بخيرة شباب هذا البلد. ورش التدريب ومعارض منتجات التنمية. مشروعك السينمائي الذي كنت تبحث له عن مخرج. مشاكساتك في كل موضوع ومع كل صاحب رأي ترى أنه يجافي العقل والإنسانية، أو يذكي العنصرية والطائفية.
لم نلتق في موعدنا ولكنني كنت أشعر بحضورك الطاغي منذ تلقيت الخبر حتى أنني كدت أتصل بك لأتأكد منك. حتى في جنازتك، كدت أنقر على كتف شخص جلس أمامي ظننته أنت. في عزائك في الكنيسة كان المجلس في البداية صامتا فسرحت وتوقعت أن تظهر على حين فجأة لتداعبنا بطريقتك المعتادة "ساكتين ليه؟ ما تشغلوا قرآن والا حاجة". عندما بدأت العظة نظرت حولي باحثا عنك. كنت متأكدا من رغبتك في مناقشة ما نسمعه فيها.
أكثر ما عشته معك منذ رحيلك هو كتاباتك التي كنت تذيلها بعبارتك الأثيرة "#العيب_مش_من_الشعب. حكايات ذكية جمعتها من عربات الفول وسائقي التاكسي وصبية المقاهي، ترسم بها ملامح المصريين الإنسانية الأصيلة وإيمانك بقدرتهم على التكاتف والحب. أنقل بعضها إلى أن يأتي من ينشرها، عسى أن يؤمن المصريون بأنفسهم كما آمنت بهم.
مع السلامة وإلى لقاء.
***
وقف ماسح الأحذية حاملا صندوق رزقه أمام القهوة مترددا، يتعلق بيده ابنه الصغير. لا يدرى ماذا يفعل به. يجلسه على الرصيف. يلاحظ عم صفوت، عامل القهوة تردده فيسأل:
- إدولهم اجازة النهارده؟
- ٣ تيام. شبط فيا وهاتك يا عياط ولازم ينزل معايا
يسأل صفوت: مقعده كده ليه؟ يأخذ الطفل من يده متجاهلا اعتراضات والده ويجلسه على مقعد ثم يحضر له زجاجة مياه غازية. يتبادل الطفل النظر مع والده. يصرخ عم صفوت: اشرب مالكش دعوة بابوك وينظر لماسح الأحذية: مالكش دعوة بيه ده تبعي.
يلاحظ رواد القهوة ماحدث، فينادى كل منهم على الأب طالبا تلميع حذاءه.
يتناول الأب الاحذية شاكرا أصحابها في كل مرة بصوت متحشرج وهم يدعون له بالرزق وتيسير الحال.
يتناول الطفل الزجاجة فيضع أمامه أحد رواد القهوة سندوتش فول وهو يحلف أنه لن يكمل إفطاره إن لم يسمح الأب لابنه بالأكل.
************
فى محطة المترو امراة تحمل أكياسا ممتلئة، وصندوقا على رأسها يتمايل مع الحركة. تحاول صعود السلم المتحرك ولكن الأكياس تكاد تفقدها اتزانها. جاءها صوت طفل صغير، 11 سنة، من الخلف قائلا: عنك انت يا حاجة. مد يده لياخذ أحد الأكياس وهو يصيح فى ثلاثة أطفال آخرين: خد يالا منك له اعملولكم لازمة.
ترددت المراة، خوفا من أن يهربوا بالاكياس. استشعر قائد الاشبال خوفها فقال مبتسما: ماتخافيش. احنا بنسرح زيك بشغل فمش هنيجى عليكى.
ابتسمت المرأة. ناولتهم الأكياس وتحركت بالصندوق فوق راسها متحكمة الآن فى اتزانه بثبات ومدهش.
سيطر القائد وجعل أتباعه يتحركون أمام المراة بما يتناسب مع سرعتها، بحيث تطمئن لوجودهم بقربها.
- بس انتم صغيرين على الشغل
- أكل العيش. بتشتغلى مع عرايس؟
- عرفت منين؟
- كل الاكياس من محلات حاجات الوانات وكده
*************
المهندس فادي رمزي وكتاباته: من هنا