نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة «آمال قرامى»... جاء فيه ما يلى.
ماذا لو اقتصر نقل المداولات داخل مجلس الشعب على وسيلة إعلامية سمعية فكانت الإذاعة الوطنية «موجات الأثير» وحدها المسئولة عن إخبارنا بما يجرى هناك؟
لو كان الأمر كذلك لقل توتر النواب وتحمسهم للمساهمة فى العروض البهلوانية المختلفة التى تقام بين الحين والآخر بمناسبة محاسبة هذا الوزير أو ذاك أو تمرير هذه الحكومة أو تلك، ولضعف أدائهم على الركح وتغيرت قواعد العمل السياسى.
ولو حدث هذا لما تنافس النواب على «إبراز عضلاتهم» صياحا وشتما، وقوفا وجلوسا، تكفيرا وتخوينا.. لو تقدم الخطاب المسموع على الخطاب المرئى لتغيرت قواعد التلقى وقلت درجات هيمنة الصورة وتبدلت معايير الانهمام بالذات والبحث عن التمركز وثقافة «السلفى».
وحدهم المتطفلون على السياسية من يهيمون بذواتهم ويعولون على الميديا لبناء صورهم والتأثير فى الجموع.. ولأنهم صدقوا أنهم أصبحوا بالفعل «سياسيين مرموقين» فإنهم يهتمون بمظهرهم، وبالقشور ورجع الصدى، وبشكل ممارسة السياسية وطرق تحويلها إلى مهنة كل ذلك على حساب المضامين وخدمة الشعب والفعل فى الواقع. فيكون أداؤهم المسرحى مرتكزا بالأساس على الصفاقة، وسلاطة اللسان، والرياء، والركاكة، والابتذال.. ويكون البحث عن مصالحهم و«غنمهم» الشخصى على حساب الجموع التى آمنت بهم. ولأنهم ما اطلعوا على فنون «الدراماتولوجيا» وما فقهوا لغة الترميز فإنهم يمسرحون السياسة بطريقة سيئة فيكون العرض فاشلا ولا يحقق الأهداف المرجوة ولا نسبة المشاهدة العالية.
أما السياسيون فإن رصيدهم الحقيقى لا يكمن فى اقتفاء أثر مرئيتهم، والولع ببناء صورتهم بل فى مهارتهم فى نسج خطاب حجاجى مقنع، وقدرتهم على تجاوز عرض الذات إلى تقديم إنجازات تحسب والتقيد بسلوك نموذجى وممارسة فن الإبهار من خلال الثقافة المتينة. وهنا يلوح الفرق بين تمثل كل فئة للذات وللعمل السياسى ولمسرحة الفعل السياسى، فالمترشح للعمل السياسى يراهن منذ البدء، على التأثير فى الجماهير بالاعتماد على مقدار تعقله للواقع وتحمله للمسئولية، وقدرته على البناء وخبراته ودرجة صدقه فيستبدل بذلك «بلاغة القول» والإنشائية وعرض الشعارات، وتحريك السواكن ببلاغة الفعل فى الواقع ولعل رونى الطرابلسى وسنية بالشيخ خير ممثلين لهذا الطراز، ولكننا أمة تنبهر بالخطابة وتعجب بمن له القدرة على تحريك العواطف.
إن السياسى الحقيقى مطالب هو الآخر، بمسرحة السياسة ولكنه يمسرح العمل، والسلطة بطريقة مختلفة تثبت مهنية عالية. فنراه يتحكم فى مشاعره ويخضع خطابه للرقابة الذاتية ويحرص على بناء العلاقات المتوازنة مع الجميع، مبرزا فى ذات الوقت، مدى قدرته على خدمة الوطن، مظهرا الصفات التى تجعله ينتزع ثقة التونسيين واعترافهم بأنه يمثل مصالحهم ويدافع عنهم. والسياسى المتمرس بفنون الأداء لا يشعر المتقبلون بأنه يلعب دورا أتقنه من سنوات لأنه ببساطة دخل تقنيات المسرحة بكل إتقان. إنه القادر على التفاوض، ووضع الاستراتيجيات، وفرض إرادة الإصلاح بطريقة مرنة وتغيير المواقع متى اقتضى السياق ذلك وحسب قواعد البرغماتية. ولذلك يغادر السياسى المحنك منصبه فى الوقت المناسب، متى أدرك أن «الرياح تسير بما لا تشتهى السفن».
وبما أن الهيمنة الذكورية جعلت المجال السياسى حكرا على الرجال مستثنية المواطنات (إلا بعض النساء) فإنه لا مجال، على الأقل الآن، للتمحيص فى طرق مسرحة «السياسيات» للعمل السياسى، والنظر فى أشكال حضورهن وطرق الأداء ونظم الخطاب.
ليس المهم فى الديمقراطية التمثيلية أو التشاركية أن نحول البرلمان إلى حلبة لصراع الثيران، وفضاء لصناعة مشهدية يتداولها «الفيسبوكيون».. الأهم من كل ذلك الانتقال بالسياسة من فن عرض الذات وأداء أدوار مختلفة وفق السياقات، والتلاعب بوعى الجماهير وعواطف المشاهدين إلى فن الفعل فى الواقع عبر ابتكار الحلول وتقديم البدائل وتطبيق القانون، واحترام آليات العمل من أجل إنقاذ البلاد، فالتونسيون ما عادوا يرغبون فى «الفرجة» وإنما فى العيش.