نشر موقع 180 مقالا للكاتب أمين قمورية يعرض فيه خطأ بايدن فى التعامل مع التهديدين الروسى والصينى، وخطأه فى محاولات إبراز نفسه كمناهض لسياسات ترامب فى السياسة الخارجية.. نعرض منه ما يلى.
فى ذروة التصعيد الأمريكى ضد الصين والاستنفار الشامل ضدها، وصف الرئيس جو بايدن نظيره الروسى فلاديمير بوتين بالقاتل ما استجلب تلاسنا غير مألوف بين زعيمى دولتين كبيرتين، واستيقظت معه أشباح الحرب الباردة.. فأين الحكمة وفى أى سياق استراتيجى قررت واشنطن خوض هجوم ضد خصمين دوليين فى التوقيت نفسه؟ وماذا ستكون ارتداداته؟
«الفيتو» المزدوج الروسى ــ الصينى الذى تكرر أكثر من مرة فى السنوات الأخيرة فى مجلس الأمن الدولى، شكّل سابقة فى العلاقات الدبلوماسية، وأظهر تقارب موسكو وبيكين فى مواجهة السياسات الغربية ولا سيما الأمريكية.. لكن مهلا، هذا التقارب لم ينتج بعد تحالفا تتلاشى فيه الخصوصيات والمصالح القطرية والحسابات المعقدة، ويذوب فيه الطرفان حتى يصيرا واحدا.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت العلاقة الروسية ــ الصينية الكثير من التعقيدات والتقلبات بين تحالف وتنافس وصولا إلى نزاعات محدودة. مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تتطور إيجابيا، والجانبان تمكنا من تجاوز خلافات أساسية ومهمة وأبرزها نزاعهما الحدودى. كما جمعتهما دبلوماسية التضامن على الساحة الدولية فى مواجهة سياسة العقوبات الغربية، والرغبة الثنائية فى الحد من تأثير التفرد الأمريكى فى قيادة العالم.
هذا لا يلغى المخاوف والهواجس المتبادلة، وهو ما يجعل التباين فى الرؤية الاستراتيجية بين هاتين القوتين حاضرا فى أذهان صناع القرار والمهتمين. بالنسبة إلى روسيا، فإن هناك جملة من المخاوف حول مستقبل العلاقة مع الصين. ففى آسيا الوسطى، تتمدد الصين فى منطقة نفوذ روسية تقليدية، وفى الشرق الأقصى، تنظر موسكو بارتياب إلى امتلاك الصين لأكبر قوة دبابات فى العالم، وهو ما يعطى إشارة بأن العقل الاستراتيجى الصينى لا يزال يعتبر أن الجوار البرى هو مصدر التهديد الرئيسي! إلى جانب القلق الروسى من التفاوت الديمغرافى الهائل بين الروس والصينيين على جانبى الحدود فى السهوب السيبيرية.
وفى الاتجاه الآخر، تتحكم بالصين مخاوف تتعلق بطبيعة النخبة الروسية الحاكمة وتوجهاتها المستقبلية، ولا سيما ما يسميه الصينيون «الجناح الليبرالى الغربى فى أروقة صنع القرار بموسكو». وإذا كان فلاديمير بوتين ونظيره الصينى شى جين بينغ يضطلعان اليوم بدور رئيسى فى تحديد مسار ومستقبل العلاقات بين البلدين، فإن بكين تخشى من وجود نزعات لدى بعض النخبة الروسية تبتعد عن توجهات بوتين الحالية.
ترى بيكين أيضا أن السوق الروسية محدودة مقارنة بالأسواق الغربية والآسيوية. فروسيا، التى يبلغ عدد سكانها عُشر سكان الصين، ويمثل حجم اقتصادها أقل من عُشر نظيره الصينى ولن تتمكن من مجاراة الصين. وعسكريا لا يمكن لروسيا ولا للصين دعم الاحتياجات الاستراتيجية للطرف الآخر. فالتهديد الأساسى الذى يواجه الصين آت من البحر، والقدرة البحرية الروسية محدودة. فى حين أن التهديدات الرئيسية التى تواجه روسيا هى بالأساس برية. وقدرة الصين على إرسال قوات إلى المناطق ذات الاهتمام الروسى محدودة. كما أن لدى كل من الصين وروسيا معادلة خاصة للعلاقة مع الولايات المتحدة. وفى المقابل، لدى الأخيرة محركاتها الخاصة للعلاقات مع كل من موسكو وبيكين، ذلك أن الاعتمادية التجارية التى تحكم العلاقة الأمريكية الصينية لا وجود لها فى حالة روسيا، بل يقابلها إدراك أمريكى بأن موسكو تمثل الحلقة الأضعف فى المعادلة بين القوى الثلاث.
باختصار التقارب الروسى الصينى تحكمه المصالح القريبة، وسياسات الضغوط والعقوبات الأمريكية أحد أهم العوامل التى أدت إلى دفع الجانبين إلى تعزيز علاقاتهما. أما على المستوى البعيد المدى، فمن المتوقع أن يواجه مسار العلاقات تحديات تتعلق بالتنافس الاستراتيجى على النفوذ فى المجال الحيوى المشترك، والتباين فى طبيعة القوة ومستقبلها، والتحولات البنيوية التى قد تحدث فى النخبة الحاكمة الروسية ما بعد بوتين.
فى المقابل، وبدل اعتماد سياسة الاحتواء المزدوج للدولتين، أو استغلال الارتياب المتبادل وعوامل الفرقة والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية المتناقضة بين روسيا والصين وتضخيمها، ارتكب بايدن الخطأ «القاتل» بخروجه عن اللياقات الدبلوماسية بوصفه بوتين بـ«القاتل»، وبشنه هجوما مزدوجا على الصين وروسيا فى آن، متجاهلا كل تحذيرات الاستراتيجيين الأمريكيين الكبار من خطر الدخول فى مواجهة مع خصمين رئيسيين فى وقت واحد. وهذا ما أعطى موسكو وبكين جرعة أوكسيجين جديدة لتعميق تقاربهما. وجرى التعبير عن ذلك بزيارة وزير الخارجية الروسى سيرغى لافروف لبكين مؤخرا فى أعقاب الاجتماع الصاخب الصينـي ــ الأمريكى فى ألاسكا وبعد النعت الذى أطلقه بايدن على بوتين، ليبرز مجددا السؤال: إلى أى مدى سيدفع الضغط الأمريكى الجانبين إلى مزيد من التقارب؟
كان يمكن لبايدن اتخاذ إجراءات للحد من مخاطر التعاون الروسى الصينى، عبر تعزيز التعاون الأمريكى الروسى، والأوروبى الروسى، لا سيما أن ملفات عدة تحتاج إلى مثل هذا التعاون مثل ملف الطاقة والغاز. لكن واشنطن اختارت فرض العقوبات والتوغل فى المدى الحيوى الروسى فى أوكرانيا وبيلاروسيا والقوقاز.
على الأرجح أن بايدن، وهو المخضرم فى السياسة الخارجية، يدرك مخاطر سياسات كهذه، لكن على ما يبدو، لا يزال يعيش هاجس سلفه دونالد ترامب الذى يكبل حركته ويجعله أسير ردات فعل وليس الفعل.
والأمر نفسه ينطبق على الصين التى تشكل التهديد الأكبر لواشنطن، على اعتبار أن سياسات ترامب تجاهها عزز نفوذها وقوتها بدلا من تطويقها ومحاصرتها. لذا يبدو أن بايدن مهتم بإثبات أنه مناهض لسياسات ترامب أكثر من التعامل مع الخطر الفعلى لروسيا والصين. ولا يستبعد أن يتحول الانقسام الداخلى الشديد فى أمريكا إلى المحرك الخفى للسياسة الخارجية الأمريكية، الأمر الذى قد يجر إلى مغامرات غير محسوبة ومدمرة للعلاقات الدولية.. وهنا الخطأ الثانى «القاتل».
وبرغم تأثير تنامى قدرات الصين وروسيا وتطور العلاقة بينهما، فإنه من المبكر الحديث عن تحولات جذرية يقودها تحالف بين الاثنين فى بنية النظام الدولى. فلا الصين، ولا روسيا بطبيعة الحال، ولا العلاقة بينهما، تملك الأهلية لإحداث تحولات جذرية فى بنية هذا النظام. لكن دفع المصالح الروسية والصينية إلى مزيد من التلاقى وتعزيز تعاونهما، سيشكل أكبر تحدٍ استراتيجى لواشنطن، وسيسرع عملية التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وبالتالى إعادة تشكيل القواعد والمعايير الدولية لصالح روسيا والصين.
النص الأصلى هنا