اتخذت المواجهة الأمريكية العربية مع إيران منحى تصاعديا خطيرا فى حدته ورسائله منذ 8 مايو مع دخول العقوبات الأمريكية مرحلتها الثانية فى الذكرى الأولى للانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى وجاء الرد الإيرانى بمخالفة خفيفة لبعض بنود الاتفاق من حيث الاحتفاظ بكمية من اليورانيوم المخصب والمياه الثقيلة وعدم بيعها فى السوق الدولية. ثم جاءت الهجمات «المجهولة المصدر» على الناقلات فى خليج عمان والطائرات المسيرة على المنشآت النفطية السعودية حاملة أيضا رسائل تصعيد. وتوج هذا الأمر بإعلان إيران إعطاء مهلة شهرين حتى الثامن من يوليو للأطراف الأخرى فى الاتفاق وتحديدا الأوروبيين حلفاء واشنطن لإنقاذ الاتفاق قبل الذهاب فى منحى تصعيدى لا يعرف بعد مداه وحجمه. نشهد لعبة تراشق كلامى وعرض عضلات إعلامية ولا يجب التفاجؤ إذا شاهدنا مزيدا من الرسائل التصعيدية خاصة بالوكالة فى مسرح المواجهة الممتد من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة الجاهز لتصعيد متبادل مع إسرائيل بسبب صفقة القرن والمواقف المتصادمة بشأنها.
من خلال ذلك كله يمكن إدراج الملاحظات التالية:
أولا: أنه لا قرار بالحرب عند كل من الطرفين الأمريكى والإيرانى لأن الحرب تشكل خسارة جسيمة للجميع والدخول فى المجهول ولكن علمتنا دروس التاريخ أن كثيرا من الحروب حصلت نتيجة أخطاء فى الحسابات أو تصعيد غير مدروس أو فشل فى سياسة «حافة الهاوية» وذلك فى إطار سياسة التصعيد لإرباك أو إضعاف الآخر فى إحدى مسارح المواجهة.
ثانيا: لا يمكن العودة إلى الوضع الذى كان قائما من قبل. «فالنزول عن الشجرة» كما يقال يستدعى إيجاد مخرج يحفظ ماء الوجه لكل من الطرفين الأمريكى والإيرانى وهنا يأتى دور الطرف الثالث الوسيط لتوفير الإخراج المطلوب، خاصة أن واشنطن تربط العودة إلى التفاوض بسلة من الشروط منها إعادة النظر فى الاتفاق النووى ومنها أيضا موضوع الصواريخ البالستية المتوسطة المدى وكذلك الدور الإيرانى التدخلى المباشر وعبر وكلاء فى دول عديدة فى المنطقة.
ثالثا: أبدى أكثر من طرف خليجى وكذلك سويسرا، حيث أودع الرئيس الأمريكى رقم الهاتف «ليتصل به الإيرانيون عندما يودون التفاوض» ــ الرغبة والإرادة بالتوسط. وبدأت دبلوماسية «الطرف الثالث» بالتحرك فى هذا الخصوص ضمن نطاق كبير من السرية بغية إنجاح هذه العملية غير السهلة خاصة فى لحظة الإقلاع وفى خضم الاشتباك المتصاعد.
رابعا: هنالك دائما الخوف من صفقة كبرى فى نهاية الأمر فاستراتيجية ترامب كما شاهدنا فى ملف كوريا الشمالية، على الرغم من التعقيدات الأكبر فى الملف الإيرانى، تقوم على التصعيد الكلامى قبل الولوج فى التفاوض. صفقة تأتى على حساب العرب نتيجة تفاهمات تدريجية عامة أو بالقطعة قد تحصل بين واشنطن وطهران.
خامسا: يحصل ذلك فى لحظة ارتباك عربى كبير بين الوقوف مع الحليف الاستراتيجى الأمريكى والقبول بشروطه فى المنطقة فى مواجهة إيران من جهة وربط ذلك بالقبول بصفقة القرن من جهة أخرى وما تمثله من إسقاط للثوابت وللعناصر الأساسية لتسوية القضية الفلسطينية وتحمل تداعيات الولوج فى صفقة القرن على جميع الأصعدة الوطنية والإقليمية. الصفقة التى تشكل إسقاطا «للمحرمات» التى استقرت منذ نشأة القضية الفلسطينية ومند ولوج باب التسوية السياسية الشاملة. كلها عناصر تقدم «هدايا» للدور الإيرانى إذا ما اختار حلفاء واشنطن اللحاق بها فيما تطرحه فى هذا الشأن.
سادسا: سياسة الاستمرار فى الجلوس فى المقعد الخلفى التى تشكل السياسة العربية حاليا ستجعل العرب يدفعون ثمن الصدام أو التفاهم الكبير إذا حصل والمطلوب بلورة مبادرة عربية لإخراج المنطقة من السياقات الصدامية الحاصلة حاليا وعدم الاكتفاء بتسجيل المواقف الدبلوماسية والإعلامية التى لا تقدم ولا تؤخر.
سابعا: يستدعى ذلك بلورة رؤية شاملة تحدد قواعد التعامل بين جميع الأطراف فى المنطقة على أساس احترام «منطق الدولة» وسيادة الدول على أراضيها ورفض جميع إشكال التدخل أيا كانت المسميات التى تأتى باسمها: بلورة قيام «نظام دولتى» طبيعى فى المنطقة للخروج من نظام الفوضى القائم على التدخل وعلى إسقاط منطق الدولة فى العلاقات بين الدول لحساب منطق الثورة: المطلوب تعزيز منطق الدولة الوطنية على حساب منطق التحالفات المذهبية والطائفية العابرة للدول والمشرعنة للتدخل الخارجى.
ثامنا: إن شرط تحقيق ذلك قد يبدأ بتعزيز «دور الوسيط» من طرف جميع الخصوم فى المنطقة ويساند ويسهل هذا الأمر قيام مسار حوارى مباشر موازٍ وغير رسمى يشارك فيه ممثلون عن الأطراف والقوى المعنية فى المنطقة لبلورة أفكار ومقترحات عملية. مقترحات تصلح لإعادة صياغة العلاقات الإقليمية فى المثلث العربى الإيرانى التركى على أساس مبادئ تقوم على احترام «منطق الدولة» وعدم جواز التدخل وإخراج العنصر العقائدى التدخلى باسم أيديولوجيات وعناوين مختلفة من اللعبة السياسية الإقليمية التى هى فى نهاية الأمر صراع نفوذ حول نظام إقليمى عربى مفكك ومكشوف جاذب فى حالته هذه لجميع أنواع التدخلات.
خلاصة الأمر نحن فى الربع ساعة الأخيرة قبل احتمال حصول الانفجار الكبير أو سلسلة من الانفجارات التى تعزز وتكرس الفوضى الإقليمية الجاذبة لمزيد من التدخل والتعقيدات، أو ولوج باب الصفقات أو الصفقة الكبرى على حساب العرب إذا بقى هؤلاء فى موقف الاصطفاف ورد الفعل ولم يأخذوا المبادرة لإنقاذ البيت العربى من الحريق. إن هذا الدور مطلوب المبادرة إليه من القوى العربية الفاعلة وهو سيلاقى بالتأكيد دعما من جميع القوى الدولية، غربا وشرقا، المتخوفة من تطورات الأوضاع فى الإقليم الشرق أوسطى وتداعياتها على مصالحها كافة.