لبنان واللعبة الجيوسياسية.. إعادة هيكلة السلطة - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 3:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لبنان واللعبة الجيوسياسية.. إعادة هيكلة السلطة

نشر فى : الإثنين 3 يوليه 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الإثنين 3 يوليه 2023 - 7:30 م

نشر موقع 180 مقالا للكاتب ميشال نوفل، تناول فيه تأثر البيئة السياسية فى لبنان بأى تغير فى موازين القوى الإقليمية والمعادلات الخارجية، مؤكدا على ضرورة إدخال إصلاح جذرى فى النظام السياسى الطائفى فى لبنان... نعرض من المقال ما يلى.
كان لبنان ولا يزال بصيغته الطائفية السياسية، شديد التأثر بالمعادلة العربيّة والإقليمية من حوله، بحيث إن كل تبدل فى ميزان القوى الداخلى يكون مرتبطا بتحوّل موازٍ فى ميزان القوى الإقليمى الشامل، خصوصا عندما يتبدى هذا التحول بمقياس التوافق السعودى ــ الإيرانى والتطبيع العربى مع دمشق أخيرا.
فى هذا السياق، لا بأس من التذكير بأن التركيبة السياسية الحسّاسة بين طوائف لبنان، تشكّلت عبر معادلة عربيّة ودولية محدّدة، وأخذت شكل اتفاق داخلى؛ بل إنّه فى كل مرّة كانت المعادلة الخارجيّة تتبدّل، كان لبنان يواجه أزمة بحجم التغيير الداخلى المطلوب أن يَحْدُث ليتكيّف مع محيطه العربى والإقليمى.
وهكذا عندما تراجع النفوذ الفرنسى الذى أَخرج صيغة 1943 بفصلِ لبنان عن سوريا، وأخذ النفوذ البريطانى يتعاظم فى المنطقة من خلال حلف الشرق الأوسط ثمّ حلف بغداد فى مطلع خمسينيات القرن الماضى، حدثت أزمة كبيرة أطاحت حُكم الشيخ بشارة الخورى ودفعت بكميل شمعون إلى سدّة الرئاسة. وما أن بدأت معادلة النفوذ البريطانى تتراجع لمصلحة المدّ القومى العربى (التيار الناصرى) والنفوذ الأمريكى، حتّى واجه لبنان حربا أهليّة عام 1958 أودت بكميل شمعون وجاءت بالشهابيّة التى عكست معادلة التوازن فى المنطقة فى أواخر خمسينيات القرن الماضى، خصوصا بين مِصر الناصريّة وأمريكا. لكنّ المعادلة المذكورة ما لبثت أن اهتزّت مرّة أخرى عقب حرب 1967 فانهارت الشهابيّة لمصلحة الحلف الثلاثى وظهرت مُعادلة لبنانية جديدة راحت تتبلور على أساس المعادلة العربيّة ــ الدوليّة الجديدة، وهى التى سمحت بتموضع منظمة التحرير الفلسطينيّة فى لبنان وتوقيع «اتفاقية القاهرة» (1969).
• • •
عند النظر فى الأزمات المتزاحمة على خريطة الصراع والتنافس فى الشرق الأوسط، يبرز الموقع المحورى للبنان فى هذه المنظومة الإقليميّة التى تشمل سوريا وفلسطين ومصر والعراق وتركيا وإيران والسعوديّة؛ لبنان ليس جزءا من هذه المنظومة فحسب، بل يتقاطع على أرضه تشكيلان نزاعيان رئيسيان فى المنطقة وهما النزاع العربى ــ الإسرائيلى والنزاع الإيرانى ــ الغربى، فإذا بهما يفرضان دينامياتهما على المنظومة السياسية اللبنانيّة. ولذلك فإن التخطيط العقلانى والممارسة السياسيّة فى لبنان، عمليّة شديدة التعقيد لارتباطها بالتوازنات والتناقضات العربيّة والإقليمية، ما يعنى أن الأقطاب العرب والإقليميين لهم أدوار معيّنة فى هذه العمليّة يجب أن تؤخذ فى الاعتبار.
كذلك إن علاقة الترابط التاريخى بين لبنان وسوريا، والتى تُوصف بأنها عضوية نظرا إلى عوامل التكامل الجيوسياسى بين الكيانَين، تجعل من الصعب التصوّر أن أىّ تحوّل عميق أو جذرى فى أىّ من البلدين، ممكن الحدوث من دون أن تكون له تداعياته على البلد الآخر. وإنّ هذا العامل التفاعلى كفيل بأن يشرح مدى تأثير الأزمة السوريّة، أقلّه فى جانبها المتعلّق بالنزوح السكانى وزوال الحدود الدوليّة، على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة فى لبنان.
• • •
يمكن القول إن لبنان قد دخل فعلا منطقة حرجة بحيث لم يعد مُجديا الحديث عن احتمال التقاطع بين مدرستين للفكر السياسى، تُركّز الأولى على أولويّة المدخل الإقليمى لمقاربة الأزمة اللبنانيّة، بينما تُشدد الثانية على المدخل اللبنانوى للبحث عن حلول للمعضلة الاقتصادية والسياسية الداخلية. فى حين تذهب بعض الاجتهادات إلى أن حالة الاستقطاب التى تُخيّم على البيئة الجيوسياسيّة المحيطة بلبنان، تُعيق تحقيق المهمّة الصعبة المتمثلة فى إعادة بناء إجماع وطنى حول القضايا الاستراتيجية الأساسية.
فى الواقع، إن إيلاء البيئة الإقليميّة للأزمة اللبنانية الأهمية التى تستحق، يُفترض أن لا يكون مُبّررا لتجاهل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التى تكشف الواقع الصعب والأليم: لبنان يواجه أزمة غير مسبوقة أدت إلى تبديد ودائع اللبنانيين، وانكماش اقتصادى حاد، وتضخّم مُفرط، وارتفاع كبير فى مستويات الفِقر والبطالة والهجرة، وتآكل الطبقة الوُسطى التى تُشكّل العمود الفقرى للنسيج الاجتماعى اللبنانى.
وتُظهر هذه الأزمة مواطن ضعف عميقة مُزمنة نتجت من السياسات الاقتصادية التى تسبّبت فى حالات عجز مزدوجة (فى المالية العامة والحسابات الخارجية) وفى الدعم المبالغ فيه لسعر الصّرف، وقطاع مالى مُتضخم، مع مشكلات متفاقمة لناحية المساءلة والشفافية، وغياب الإصلاحات الهيكليّة، كل ذلك جعل الأزمة تبلغ ذروتها فى خريف العام 2019 مع تسرب رءوس الأموال إلى الخارج وبالتالى عجز لبنان عن سداد ديونه فى مارس 2020، وهو الأمر الذى أعقبه ركود عميق وهبوط حاد فى قيمة العملة الوطنية ومعدّل تضخّم غير مسبوق.
وقد تفاقمت الأزمة جرّاء جائحة كوفيدــ19 ثم انفجار مرفأ بيروت الذى أتى على جزء كبير من المدينة فى مطلع أغسطس 2020.
ثلاث سنوات انقضت منذ تخلّفت الدولة اللبنانيّة عن سداد ديونها السياديّة فى مارس 2020، ومنذ قدّمت الحكومة «خطة إنقاذ» اقتصادية ومالية وحتى اليوم، لا تزال الطبقة الحاكمة وأصحاب القرار السياسى عاجزين عن اتخاذ التدابير اللازمة لإنقاذ لبنان من الكوارث التى تزداد يوما بعد يوم.
• • •
عندما توصل لبنان وإسرائيل فى 27 أكتوبر 2021 إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، اعتُبر هذا الاتفاق «خطوة تاريخيّة» كان يستحيل تحقيقها لولا الدور الذى اضطلع به الأمريكيون والإيرانيون على حدّ سواء، من دون أن ننسى الدور الفرنسى المعزز بالتفاهم مع حزب الله وتنامى المصالح المشتركة بين باريس وطهران.
وكان لافتا للانتباه أن واشنطن حرصت فى أثناء عملية التفاوض على تذكير المسئولين الإسرائيليين بأن تأمين موارد جديدة للطاقة تلبية للحاجات الأوروبية من الغاز والنفط بعد العقوبات على روسيا، إنما هو أمر يندرج فى إطار حماية الأمن القومى للولايات المتحدة. أمّا طهران، فقد عزّزت من جانبها تموضعا جيوسياسيا فى شرق المتوسط بمواجهة إسرائيل بفضل امتلاكها «أوراقا لبنانيّة» ذات قيمة استراتيجيّة تتّصل بـ«الحدود المشتركة» للمقاومة مع فلسطين المحتلة واشتداد القوة الرادعة المقاومة فى جنوب لبنان. علما بأن التحالف السورى ــ الإيرانى يسمح لدمشق بالاعتماد على حزب الله قوّة ضغط رئيسيّة على إسرائيل، مثلما يوفّر لها عمقا حيويّا حيال الضغوط الأمريكيّة والغربيّة إجمالا.
وتقودنا هذه الملاحظات إلى تلمّس لعبة جيوسياسيّة كبرى تمنح إيران موقعا متفوقا نتيجة لشراكتها مع روسيا والصين، ومن ثم تحسّن علاقاتها بدول الخليج وصولا إلى إبرامها اتفاقا مع المملكة العربية السعودية بوساطة صينية، وتاليا عودة سوريا حليفتها إلى الجامعة العربية. وفى سياق هذه اللعبة، تتشكل دينامية جديدة حول لبنان تسمح لإيران بأن تكون لها اليد العُليا فى المحادثات النووية مع أمريكا وسط مؤشرات على اهتمام واشنطن بالتوصل إلى اتفاق مؤقت فى هذا الشأن، فضلا عن انتظام آلية التنسيق الروسى/التركى/الإيرانى وتأثيرها على إدارة الأزمة السوريّة، بينما يحاول لبنان وسوريا التوازن والتكيف مع التحدّيات الجديدة التى تطرأ على الأوضاع فى الشرق الأوسط.
لكن لبنان الذى يستفيد حتما من التوافق السعودى ـ الإيرانى وتحريك المسار السورى ــ العربى، عليه أن يتهيّأ للتعامل مع ردود فعل سلبية إسرائيلية وأمريكيّة، فضلا عن اندفاعة السعودية لإعادة تفعيل العمل العربى المشترك لاحتواء تمدد النفوذ الإيرانى والذى قد يكون لبنان أحد حقوله الاختبارية. وهو فى كل الأحوال يحتاج إلى إصلاح جذرىّ فى نظامه السياسى الطائفى الذى يرزح تحت سيطرة قادة سياسيّين وأُمراء حرب يسرقون موارد الدولة ويُعيدون توزيع قسم منها على مجموعات من العملاء والموالين التابعين لطوائفهم. فإذا أراد روّاد التغيير، النجاح فى مهمّتهم، عليهم أوّلا تركيز الجهد على خريطة طريق تقود إلى إعادة هيكلة نظام السلطة ضمن السياق الأوسع للديناميّة الإقليمية.

النص الأصلى:

التعليقات