يصطحب بعض أصدقاء عائلتى أطفالى ليمضوا يوما مع أطفالهم فى مكان مخصص للعب والمرح. يهدأ البيت فجأة حين أغلق الباب بعد قرابة الساعتين من المشاحنات والركض وراءهم حتى يجهزوا، تلتها لائحة الوصايا التى أرددها كل مرة حتى مللتها أنا نفسى أصلا، ثم زيارة أخيرة للحمام قبل الانطلاق، فقبلة عند الباب والهدوء التام.
قليلة هى المرات التى أجد نفسى فيها وحيدة تماما فى المنزل ودون أن تكون لدى خطط بعينها أو حاجات يجب أن أقضيها. أجلس أمام الشباك مع فنجان من القهوة وأتأمل انعكاس أشعة الشمس على الطاولة أمامى، فيظهر لون الخشب بدرجات مختلفة. أنظر حولى علنى أتذكر شيئا أحتاج أن أقوم به فى البيت، أفتح جهاز الكمبيوتر لأقرأ أخبار العالم، وأتأكد أن لا عمل متراكم فى بريدى الإلكترونى.
أغير مكانى فأجلس على سريرى لأننى قررت أننى أحتاج بعض الراحة. سرعان ما أغير رأيى فأقوم وكأن أفعى لسعتنى وأمشى فى البيت. أجمع بعض الألعاب ثم أرتب أوراقا تراكمت على المكتب. مضت ساعة وبدأت أتعود على الهدوء. أمسك بالهاتف لأطلب صديقة لكننى أقرر أننى فعلا لا أريد تعكير الهدوء.
هو ليس هدوءا كاملا، ففى الخلفية أسمع صوت غسالة الثياب وفى الخارج صوت السيارات والشارع. أقف فى المطبخ لأعد مزيدا من القهوة فأسمع الجارة تعدد بصوت عالٍ لائحة الأشياء التى تحتاجها، يبدو أنها تتحدث مع البقال فى الهاتف. أقرأ عدة أبواب فى كتاب بدأته منذ أسابيع لكننى تقدمت فيه ببطء بسبب انشغالى بالعمل وبالعائلة. أزيد على فنجان القهوة وأضع الكتاب جانبا.
***
تعلمت منذ سنوات عديدة عادة التأمل التجاوزى، وهى تقنية تهدف إلى إفراغ رأسنا لمدة محددة من كل الضجيج الذى بداخله، فهذه التقنية والتى تسمى أيضا التأمل خارج نطاق الواقع، تساعد العقل الواعى على تجاوز الأفكار الحالية والوصول إلى نوع من الصفاء الذهنى، ينعكس على النفسية والجسد فيشعرهما بالراحة. إلا أننى لا أريد التأمل باستخدام تقنية بعينها. أريد فقط الشعور بنفسى فى البيت، فى الهدوء، أريد أن أرى أشعة الشمس من وراء الزجاج، فأكاد أشعر بدفئها لأننى ذهنيا أستحضر الدفء من مكانى هنا على الكنبة. فعليا ما أحتاج إليه هو أن أصل إلى وعى تام بجسدى وبشعورى أننى هنا فى هذا البيت أشعر بالأمان، فى هذه العائلة التى كونتها أشعر بالحب، فى هذه الحياة التى بنيت جزءا كبيرا منها أشعر بالرضا.
هذا ما كنت أريد أن أتأمله، هذا ما كنت أريد أن أبقى فى البيت من أجله.
طبعا تتسابق الأفكار فى رأسى كما فى كل مرة يجلس فيها أحدنا لمدة دقائق، فمن منا يستطيع إيقاف ذلك الماراثون الذهنى ولو لثوان؟ من منا يستطيع فعلا الانسلاخ عن التفاصيل اليومية تماما بغية التركيز فى معنى الحياة أو فى أشعة الشمس أو فى جمال الوردة التى أمامه؟ من منا لم يستخف بالدعوة لتأمل جمال الوردة فى يوم شعر فيه أن الدنيا كلها قد انحشرت فى ذلك الصندوق الموجود فوق كتافيه والذى نسميه الرأس؟ ربما توقفنا قليلا للتركيز فى خشب الطاولة ودفء لونه البنى، وفى عدد الكتب المرصوصة على الرف بعضها عمودى وبعضها أفقى لضيق المكان، أو التمعن فى الكرسى الأزرق لنتذكر كيف جربنا حشره فى السيارة دون نجاح ثم كيف ساعدتنا صديقة فاستخدمنا سيارتها الكبيرة حتى وصل الكرسى إلى البيت.
***
يا لجمال هذه اللحظة فى البيت الهادئ ونحن نتذكر قصصا صغيرة نخرجها من ذاكرتنا وكأننا نفتح دروجا سرية فى مكتب دمشقى قديم، كأننا نمد يدنا تحت مكان الكتابة ونتحسس الرف الخشبى فنجد فتحة مخفية نفتحها لتظهر لقطة من سهرة فى مسرح قديم. نمد يدنا أبعد فنسحب درجا فى الزاوية الثانية من ذاكرتنا نرى فيه طفلنا الثانى يوم ولادته وفرحنا بملاحظة شبهه من أخينا. عجيب هو ذلك الصندوق الصغير الجالس فوق كتافينا والذى نكتشف كل لحظة احتوائه على درج لم نكن قد لاحظناه من قبل، نخرج منه صورة قديمة للعائلة أو صورة لزفافنا لا تشبه تلك الصور الموضوعة فى إطارات فضية، فهى لحظة نتذكرها لأننا ضحكنا من قلبنا لحظة عندما انتهت الحفلة ولم يرغب الأصدقاء بالرحيل.
فى البيت الهادئ أعترف أننى أنسى خلال ساعات قليلة ضجيج الأطفال ولكننى أتذكر فرحى بهم، أنسى كثرة طلباتهم ولكننى أتذكر عيونهم حين يفتحونها كل صباح فتظهر لى لامعة متيقظة منذ اللحظة الأولى. أحبهم لكننى أحب أيضا البضعة ساعات من الوحدة والسكينة، أشتاق إليهم لكننى فى وجودهم أشتاق لجلوسى هنا أمام الشباك، بينما يتغير مكان الشمس فى السماء وتخف حدتها فتخف معها حاجتى للسكون والوحدة. أضىء المصباح الصغير قربى حين أشعر أننى أجلس فى الظلام.
***
يدق الباب فأهب من مكانى وأفتح لهم. أعانقهم بينما يخبروننى عن يومهم وعن النشاطات التى قاموا بها فى ساعات قليلة. وأنت ماذا فعلت؟ يسألوننى. أنا غرقت فى محتوى الصندوق وفتحت عدة دروج سرية فى المكتب وتصفحت ذكريات أتركها للأيام الخاصة، ثم شربت القهوة وعدت إلى الصندوق وشربت القهوة من جديد، بينما مرت الساعات لذيذة وبطيئة. أنا أيضا فعلت الكثير، أجيبهم.