نشر موقع درج مقالا للكاتب راشد عيسى مقالا جاء فيه ما يلى
يحار الكاتب اللبنانى الفرنسى أمين معلوف، فى كتابه «الهويات القاتلة»، كيف يجيب عن سؤال حول انتمائه إلى فرنسا أو لبنان. إذ إن الآخرين لن يقبلوا سوى بجواب قاطع، يرجح إحدى الكفّتين، أو يساوى بينهما مناصفة على أقل تقدير.
لكن معلوف الذى عاش فى لبنان 27 عاما، قبل أن يختار فرنسا لإقامته النهائية، وكان عند صدور كتابه آنف الذكر أكمل فيها نحو 23 عاما، يرفض حتى أن يناصف بين الهويتين، لأن «الهوية لا تتجزأ ولا تتوزع أنصافا أو أثلاثا أو مناطق منفصلة. أنا لا أملك هويات عدة. بل هوية واحدة مكونة من كل العناصر التى شكّلتْها».
فكرت أنه إذا كانت هذه حال معلوف، فما حالى أنا الفلسطينى الذى ولدت وعشت كل عمرى فى دمشق، لا أعرف مدينة غيرها. لكن فى الواقع، لم يكن الجواب بهذه السهولة، فقد احتاج الأمر ثورة كتلك التى انطلقت عام 2011 حتى يجد المرء فى «فلسطينيّته السورية» حلا مناسبا، لا كهوية، بل عبر خيار الانتماء لقضية.
بالنسبة إلى فلسطينيى سوريا لم يكن واردا من قبل أن يحسب المرء نفسه على الجنسية السورية، وما إقراره بكلمة «سورى الملحقة» سوى انصياع لأوامر وأوراق رسمية. وإذا أخذنا الأمر بحسن نية، أى من دون أن نحسبه نوعا من الاعتزاز الوطنى الذى لا يقبل جنسية أخرى، ولا يمكن أن يفضّلها على جنسيته، مع ما يستتبع ذلك أحيانا من نزعات إقصائية وربما فاشية. ويمكن أن ندرجه فى إطار النضال للحفاظ على هويةٍ سعى العالم كله إلى إلغائها وتذويبها، أو على الأقل إلحاقها بجنسيات أخرى معترف بها، حيث ولدت جنسيات فرعية، فلسطينى ــ لبنانى، فلسطينى ــ أردنى، فلسطينى ــ عراقى.
لذلك فإن توصية الجامعة العربية بمنع تجنيس الفلسطينيين حفاظا على هويتهم جاءت مناسبة لتعزيز نضاليتهم، إلى حدّ بدا أن التفريط بالجنسية شكل من أشكال الخيانة. فكان بديهيا ألا نسمع مطالبة من فلسطينيى سوريا بالحصول على جنسية هذا البلد. لم يكن ذلك على أجندة أحد، أفرادا وفصائل.
***
حين يستذكر المرء سيرة المجتمع الفلسطينى فى سوريا حتى أواسط ثمانينيات القرن الماضى سيمكنه بسهولة استرجاع مناخ متماسك. كان المخيم ما زال يحتفظ بصورته كمخيم، شعارات العودة وملصقات الشهداء كانت آثارها هناك، على كل جدار. مكاتب الفصائل الفلسطينية الموزعة فى كل أرجاء المخيم كانت، على خلافها وتناحرها، نقاط انجذاب لاجتماع الأجيال الجديدة، والحفاظ على اسم فلسطين متقدا. ليس ذلك وحسب، كانت المخيمات، كما قال لى مرة كاتب سورى فى تحقيق صحفى حول المخيمات، ملاذا حتى للسوريين الآتين من أربع جهات الريف السورى، «ملاذا دافئا وخبزا ساخنا ومفردات فلسطينية لم نسمعها من قبل… كنا آتين وعلى أكتافنا هموم متفرقة وثقافة يسارية وعلم أحمر ونجمة وصور جيفارا، اجتمعت مع بيانات العاصفة وصور الشهداء على جدران البيوت. كان شباب المخيم، من فلسطينيين وسوريين، يعرضون عن مباهج الحياة الرخيصة، وكان كل منهم مشروع مقاتل أو مفكر أو شهيد».
ولعبت المؤسسات الثقافية والإعلامية الفلسطينية، وعلى رأسها صحافة الفصائل، دورا كبيرا جاذبا للعرب والسوريين، ما عزز تلك الكيانية الفلسطينية، التى كرّست على الدوام دور فلسطين والفلسطينيين المركزى.
وعلى رغم أثره البالغ، لم يتضح أن لاجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، الذى لم ير فيه أحد آنذاك هزيمة ولا حتى نكسة، كان ممهدا لانقلاب كبير فى أحوال مجتمع الفلسطينيين السوريين. استُكمل الاجتياح بانشقاق حركة «فتح» عام 1983، وطرد مقاتليها من لبنان وتصفية مكاتبها فى سوريا، كانت تلك هى المقدمة لتحويل الفصائل الفلسطينية الموجودة فى سوريا إلى مجرد دكاكين، أو جعلها تحت السيطرة تماما.
اختفت «دولة» الفلسطينيين فى سوريا، لا مهرجانات تخريج لأشبال وكوادر فتح فى معسكر عدرا، والتى كانت مناسبات دورية لاستعراضات عسكرية ومهرجانات خطابية كان يحرص الزعيم الراحل ياسر عرفات على حضورها شخصيا (ونحسب أن لكثيرين من الفلسطينيين ذكريات من تلك المهرجانات تملأ النفس بالاعتزاز)، لا مسيرات فى مخيم اليرموك فى ذكرى الانطلاقة، لا صحف، ولا أوهام حول دور لأى منظمة فلسطينية يمكنها أن تساهم حتى فى إطلاق سراح معتقل.
***
ربما هنا بدأت فلسطينيةُ الفلسطينيين تصبح أكثر واقعية، لم تعد القضية مركزية إلا فى مناسبات طارئة، انتفاضة، مجزرة فى مخيم، قصف على غزة. ولن يحصل أى من المناسبات على حضور يذكر إلا برضا السلطات السورية. الواقعية اقتضت الانفضاض عن الفصائل ــ الدكاكين (وهذا الاسم رائج وشعبى للسخرية من دورها الأقرب إلى التجارة بالأوهام)، وربما بدء التفكير بالاندماج فى مجتمع السوريين. وإذا كان الفلسطينيون لم يطالبوا النظام بحقوقٍ لهم فلأنهم بالفعل كانوا متساوين مع السوريين فى مختلف الحقوق كالعمل والتعليم والتملّك. وهنا أتذكر تلك النكتة التى أطلقتها إعلامية سورية بارزة حين قال فلسطينى أمامها «إن لنا حقوق السوريين نفسها سوى حق الانتخاب والترشيح»، فعلّقت مازحة «لا عليك، نحن السوريين لا حق لنا بالانتخاب والترشح».
وبالفعل، لم يكن هناك أى فارق فى الحقوق، ويعود الفضل فى ذلك إلى مرسوم أصدره الرئيس شكرى القوتلى عام 1956، وكان من غير المعقول أن يبطله نظام البعث، القائم على نداءات العروبة ومركزية القضية الفلسطينية.
لكن على رغم تلك الواقعية لدى الفلسطينيين لم يصل الأمر إلى حدّ تقديم أنفسهم طواعيةً كفلسطينيين سوريين، إذ ظل الأمر مأساويا إلى حد ما، فأن تكون هذه هويتك يعنى أنك ستظل حاملا لوثيقة سفر، وليس جوازا، وستظل الوثيقة الزرقاء مثار شبهة على الحدود ومختلف المطارات. ستبقى أقل من «مواطنك» السورى، ومع تلك الوثيقة ستضيع فرص كثيرة فى السفر والتعليم والعمل. ولن تجرؤ على الحلم بجواز سفر سورى، كان أسهل أن تحلم بجواز سفر سويدى أو كندى أو نرويجى.
عندما اندلعت الثورة فى البلاد، كان بديهيا أن ينضم فلسطينيون كثر للمشاركة فيها، وبالطبع كان مؤسفا ولا معقولا أن ينحاز فلسطينيون آخرون للدفاع عن النظام السورى، إذ لكل فلسطينى نصيبه من ظلم النظام، الذى تأكد وتفاقم فى سنوات الثورة، وسجلت مجازر وشهداء تحت التعذيب فى معتقلات النظام. مع الثورة بتنا أمام ظاهرة لعلها تسجل للمرة الأولى فى تاريخ العلاقة بين الشعبين، عندما راح الفلسطينى يقدم نفسه باعتزاز كفلسطينى سورى، إن لم يكن يكتفى بسوريته أحيانا. خيار لم يكن بحاجة لوثائق وإثباتات، فقد عُمّد بالدم قبل الكلام.
أنا أيضا رحت أقدم نفسى كفلسطينى سورى من دون أى ادّعاء، ولم أكن أسمّى ذلك تضامنا أو مجرد تعاطف، فتلك قضيتى، كما فلسطين تماما، وإذا كنت أصرّ على هذه الهوية، وهى فى جزء كبير منها معطى لم يكن بيدى تماما، فقد ولدت هناك، عشت، وتنفّست، وأكلت من قمح تلك البلاد، لأننى أيضا اخترتها بكامل إرادتى، هوية وقضية.
النص الأصلى:من هنا