نشر موقع «على الطريق» مقالا للكاتب اللبنانى «طلال سلمان» عن عصر انتهاء الصحافة الورقية فى لبنان، وبالتركيز على إعلان مؤسسة دار الصياد المالكة لصحيفة «الأنوار»، وعدد من المجلات الفنية والمنوعة، التوقف عن الصدور بدءا من يوم الإثنين الماضى..
قُضى الأمر: انتهى عصر الصحافة المكتوبة فى لبنان.
.. وها هى، خارج لبنان، تعود إلى بيت الطاعة: صحافة حكام وصحافة معارضة مدجنة لا تعبر عن الناس وطموحاتهم ومطالبهم، وإنما عن صراع أجنحة السلطة ومعها المعارضات المدجنة.
أما فى لبنان فتوزعت بين السلطة (وهى طائفية) والمعارضات متعددة الشعار، وهى فى أصل تكوينها طائفية..
صحف الحاكم هى الأغنى والأقدر على استقطاب الكتّاب والكوادر المهنية، كما أنها تكاد تحتكر السوق الإعلانية، رسمية بالأساس، وتجارية وصولا إلى الإعلانات المبوبة.
فأما الصحف «الطبيعية»، وبغض النظر عن «رسالتها» ومن وما تمثله، وحجم توزيعها فى «السوق»، فإنها إن هى وجدت «المشترك» فإنها لن تجد «المعلن»، وبالتالى فإن توزيعها سيظل محدودا، واستطرادا فإن تأثيرها سيبقى محدودا.
هل من الضرورى التذكير بأن الصحافة، وبغض النظر عن مستواها المهنى، وعن عقائدية كتّابها ومحرريها أو حيدتهم المغلفة بالأصول المهنية، تبقى ــ من حيث المبدأ ــ فى موقع «الملك العام»، طالما أنها مطروحة أمام «الجميع» بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم ومعتقداتهم ومواقفهم السياسية.
***
من الأخبار المحزنة أن دار الصياد، ذات العراقة والتراث المهنى والفنى ونتاجها السياسى «الأنوار» و«الصياد» والفنى «الشبكة»، ومطبوعات عديدة أخرى بعضها لأزياء الأميرات والفنانات والعارضات الجميلات، وبعضها الأخير للإدارة العامة ومؤسسات الدفاع والأمن فى دول الخليج، بعنوان أبى ظبى على وجه الخصوص.
من الأخبار المحزنة أن هذه الدار التى كانت على امتداد عهدها، منذ انطلاقتها مع استقلال لبنان عبر مجلة «الصياد» وحتى إقفالها قسرا، اليوم، إحدى المنارات السياسية والثقافية والفنية فى لبنان والمنطقة العربية..
لقد أطفئت «الأنوار»، فى المبنى الذى كان «جامعة» يتخرج منها الصحفيون والكتّاب المبدعون ورسامو الكاريكاتير.. وقائمة الشرف طويلة تضم نخبة ممن سكنت أسماؤهم وجداننا (غسان كنفانى وجان مشعلانى، سليم نصار، هشام أبو ظهر وغيرهم كثير، آخرهم القلم الممتاز رفيق خورى).
ولقد عملتُ فى دار الصياد عشر سنوات متقطعة، متنقلا بين إدارة التحرير فى مجلة «الصياد» ثم كمحرر متجول لمحاورة القادة وتغطية الأحداث الخطيرة التى تفجرت بها الأرض العربية بين عهد جمال عبدالناصر وأيلول الأسود (1963 ـ 1970).. وصولا إلى «حرب اكتوبر ـ رمضان 1973)..
عملت فيها وهى تعيش ضائقة مادية حادة، سرعان ما تلتها انفراجات من دون أن يتخلى سعيد فريحة، وهو أحد ملوك الظرف، عن عشقه للفن والطرب وصداقته مع الكبار الذين لن يتكرروا: أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وصباح وعبدالحليم حافظ ووديع الصافى وفيلمون وهبة.. وقد جاء التعبير عن هذا العشق بإنشاء «فرقة الأنوار»، كمنافس للرحابنة وفيروز فى زمن الدعة والازدهار الفنى بعنوان مهرجانات بعلبك.
كان سعيد فريحة، الذى نشأ يتيما وفقيرا وعمل صبى حلاق فى حلب، قبل أن يعود إلى بيروت وقد «فك الحرف»، وبدأ يمرن نفسه على الكتابة، وعمل فى بعض المجلات والصحف التى كانت تصدر آنذاك.
ولقد أُعجب سعيد فريحة برياض الصلح، أحد نجوم السياسة فى مرحلة استقلال لبنان فرعاه وشجعه على إصدار «الصياد»، خصوصا وقد لمس لديه شعوره الوطنى الصادق معززا بعروبة صافية.. ونجحت «الصياد»، التى اعتمدت فن الكاريكاتير حيث الفكرة أهم من الرسم، سيما وأن الهدف السخرية من «الخصوم» والترويج لنزعة الاستقلال والتقارب الجدى مع سوريا.
وحين تفجرت مصر بثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، وجد سعيد فريحة «بطله» الذى عوضه غياب رياض الصلح مع انفتاح على أهداف الثورة: العروبة وصولا إلى دولة الوحدة، ومقاومة الاستعمار، فرنسيا وبريطانيا، ونصرة عبدالناصر وهو يواجه العدوان الثلاثى على مصر (خريف 1956) ثم يتقدم لإنجاز الحلم العربى التاريخى بإقامة أول دولة للوحدة العربية فى التاريخ الحديث: الجمهورية العربية المتحدة.
كان طبيعيا، فى ظل هذه الفورة القومية، أن يندفع العديد من أهل الصحافة إلى إنشاء المنابر القومية: فأصدر سعيد فريحة «الأنوار»، بعد «الصياد» و«الشبكة» التى عبرت عن «مزاجه» الفنى وعلاقته الوطيدة بكبار أهل الفن: أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وصباح وعبدالحليم حافظ... إلخ.
فى غمرة هذا النهوض القومى أصدر المرحوم رياض طه جريدة «الكفاح العربي» إضافة إلى مجلـة «الأحد» وأصدرت حركة القوميين العرب مجلة «الحرية»، كما أصدر «حزب النجـادة» ـ عدنان الحكيم ـ جريدة «صوت العروبة»، واقترب فريد أبوشهلا من هذا الخط بمجلته «الجمهور الجديد».. إلخ.
دارت رحى معركة شرسة بين الانفصاليين أو الانعزاليين والقوميين، فى وقت كانت صحافة لبنان هى «صحافة العرب».. خصوصا وقد استدرج نفوذ عبدالناصر «الرجعية العربية» إلى هذا الميدان عبر جريدة «الحياة» التى بدأت هاشمية مع كامل مروة ثم انحازت إلى السعودية، فى حين كانت جريدة «النهار» تمثل وجهة نظر الغرب مع رعاية الكيانية فى لبنان، وإن بزتها فى ذلك جريدة «العمل» الكتائبية، بينما كان للغرب صحفه مباشرة: «الاوريان» باللغة الفرنسية لجورج نقاش، التى تعززت فى ما بعد بـ«لوجور»، فضلا عن «الدايلى ستار» باللغة الإنجليزية وقد أصدرها كامل مروه أيضا.
هذا حديث عن الماضى الجميل للصحافة فى لبنان التى تعكس على صفحاتها مختلف التيارات السياسية والتوجهات الاقتصادية لجيلين أو ثلاثة من أجيال اللبنانيين، بل العرب فى مختلف ديارهم، وعلى اختلاف أنظمتهم التى كثيرا ما استخدمت الصحافة فى لبنان ميدانا لصراعاتها وخلافاتها السياسية والعقائدية.
*****
فى وداع دار الصياد، بإصداراتها العديدة، سياسيا وفنيا واجتماعيا، تتهاوى إحدى قلاع الصحافة فى لبنان والوطن العربى، مشيرة إلى انتهاء عصر الصحافة المكتوبة، التى كانت ــ على تعدد منابرها ــ ساحة نقاش فكرى وسياسى واقتصادى واجتماعى، تقدم بيروت كمنارة ثقافية ومولد أفكار وأرض صراع بين العروبة والكيانية، بين الوطنية وسياسة الالتحاق بالأجنبى، وعلى حساب الحرية والهوية والقضايا العادلة لهذه الأمة بعنوان فلسطين.
رحم الله سعيد فريحة أحد الكبار ممن تركوا بصمتهم على مرحلة من أخصب المراحل وأشقها وأروعها فى تاريخ هذه الأمة التى تكاد تضيع عن هويتها كما عن طريقها إلى مستقبلها.
النص الأصلى: