فى إطار المراجعات التى تقوم بها كبرى شركات الأبحاث العالمية هذا العام، قامت شركة كابيتال إيكونوميكس الإنجليزية بنشر دراسة فى منتصف الشهر الماضى راجعت فيها تجارب العالم فى ظل أوبئة مشابهة للكورونا من حيث التأثير وعدد الوفيات على مدى أكثر من سبعمائة عام، أهم ما استخلصته هذه الدراسة أن هذه الأوبئة تتسبب فى الإسراع من وتيرة التغيير إلى اتجاهات كانت موجودة من قبل حدوث الوباء، وقد رأينا ذلك فى الشهور الماضية على عدة أصعدة منها على سبيل المثال إسراع وتيرة استخدام التكنولوجيا فى التسوق والتعليم وحتى فى العلاج، ومن أبرز هذه التيارات هو توجه البنوك المركزية إلى لعب دور رئيسى فى اقتصادات دولها، وهو الدور الذى بدأ فى الظهور مع الأزمة الاقتصادية العالمية فى ٢٠٠٨ ووصل أبرز مراحله فى الشهور الماضية حين وجدت الحكومات نفسها فى موقف يحتم عليها القيام بدور أكبر من المعتاد لمساندة اقتصادات دولها.
المؤكد أن فيروس الكورونا أجبر الجميع على التوقف وإعادة تقييم مسلمات فى جميع مناحى الحياة من وسائل تواصل وتكنولوجيا مرورا بالصحة والتعليم وبالطبع الاقتصاد، وعندما ننظر لأسس الاقتصاد الحديث الذى تنتهجه المؤسسات الدولية الكبيرة سنجد أن فيه عددا من المسلمات من أهمها مبدأ استقلال البنوك المركزية عن الإدارة الحكومية، هو بالطبع استقلال محدود فمن غير المعقول مثلا أن تدخل دولة حرب ولا يكون بنكها المركزى مساندا لجهود الحرب، يشتكى الأمريكيون مثلا من ضغط الرئيس الحالى ترامب على محافظ البنك الفيدرالى الأمريكى فى سياساته وذلك لأنهم تعودوا خلال العقود الأخيرة على درجة عالية من الاستقلالية ولكنهم ينسون أو يتناسون رسائل نيكسون إلى محافظ الفيدرالى الأمريكى وقت حرب فيتنام والتى كانت أشد وأعنف بل وكانت تشمل أحيانا تعليمات صريحة. كذلك دور البنك الفيدرالى الأمريكى فى مساندة جهود الحرب العالمية الثانية وإصلاح الاقتصاد بعد الحرب بإجراءات استثنائية استمرت حتى أوائل الخمسينيات، فى الأزمة الأخيرة وصل اندماج البنوك المركزية مع الحكومات وخاصة وزارات الخزينة والمالية لأقصى حدوده منذ عقود. ومن المعروف مثلا أن جاى باول محافظ البنك الفيدرالى الأمريكى الحالى كان يقوم باتصالات يومية متعددة مع ستيف منوشن وزير الخزينة لتنسيق الجهود بينهما وذلك لأسابيع كثيرة فى بداية الأزمة. وهو ما كان بالنسبة لى دافعا لأعيد تقييم أحد مسلمات الاقتصاد الحديث وهى استقلالية البنوك المركزية ودورها فى الاقتصاد القومى.
كتب البروفيسور الألمانى ريتشارد وورنر أستاذ الاقتصاد فى كتابه «أمراء الين» Princes of the Yen عن تجربة الاقتصاد اليابانى وتطوره من بعد الحرب العالمية الثانية حتى مرحلة الفقاعة فى أواخر الثمانينيات والانهيار الذى شهده فى التسعينيات من القرن الماضى وما تلى ذلك من ركود وصعوبات اقتصادية سميت بالعقد الضائع للاقتصاد اليابانى The lost decade وهى فى حقيقة الأمر اقتربت من العقدين، يقول وورنر إن التطور العظيم فى الاقتصاد اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية جاء كنتيجة مباشرة لوجود عدد كبير من البنوك العاملة فى السوق مع وجود مخطط عام من وزارة المالية اليابانية فى الصناعات والقطاعات التى تريد دعمها ولعب البنك المركزى دور محورى فى إطار خطة وزارة المالية وقيامه بإصدار تعليمات محددة للبنوك بحجم التسهيلات التى يلتزم بمنحها شهريا فى كل قطاع وسعر الفائدة واجب التطبيق. يقول أيضا إن نهاية التجربة بفقاعة ثم انهيار جاءت كنتيجة مباشرة لمخطط كان هدفه إعطاء البنوك المركزية استقلالية يتبعها دور أكبر ثم سيطرة، ومن ضمن أهم أسس هذه السيطرة تخفيض عدد البنوك العاملة فى السوق مما يجعل ميزان القوى ينتقل من الشركات المتوسطة والصغيرة إلى الشركات الكبرى التى تفضل البنوك دعمها.
الجزء الأخطر فى الكتاب هو عندما ينتقل وورنر للجزء الخاص بأزمة النمور الآسيوية فى أواخر التسعينيات وروشتة الإصلاح التى تم فرضها من المؤسسات الدولية هناك والتى حولت السوق فى أغلب هذه الدول من دعم الشركات المتوسطة والصغيرة إلى دعم الشركات الكبرى وتخفيض عدد البنوك بدعوى تقويتها وفرض مستثمرين أجانب على هياكل إدارتها، أدعى أن شىء من هذا حدث فى مصر فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى بدعوى خلق كيانات بنكية أقوى مع التركيز على التمويل الاستهلاكى وتمويل الشركات الكبرى بدلا من تنافس عدد أكبر من البنوك على تمويل أكبر عدد من الشركات المتوسطة والصغيرة وتحويلها لكيانات كبيرة وقوية، وكنت قد تناولت ذلك بإسهاب فى مقال سابق بعنوان «السيستم واقع» تم نشره فى ديسمبر ٢٠١٩.
الاستنتاج الذى يصل له وورنر فى النهاية أن فكرة استقلال البنوك المركزية هى فى الحقيقة فكرة دخيلة على الفكر الاقتصادى ظهرت مع بزوغ نجم الفكر النيوليبرالى وأبطاله ميلتون فريدمان ورونالد ريجان ومارجريت تاتشر وأن تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية وشاملة يتطلب أن يلعب البنك المركزى دورا أقل استقلالية ويكون فى الحقيقة منفذا لخطة الحكومة الشاملة مع الحفاظ بالطبع على الأسس التقنية الأساسية لإدارة السياسة النقدية للدولة، ويتوقع وورنر أن الخطوة القادمة فى سيطرة البنوك المركزية على مقادير الدول ستكون عن طريق تقليل دور البنوك التجارية العاملة فى السوق عند إطلاق العملات الرقمية الخاصة بالبنوك المركزية، هذا التخوف دعا البنك المركزى الصينى لنشر خطته الخاصة بالعملة الصينية الرقمية وتأكيد الدور المحورى للبنوك التجارية العاملة فى السوق فى هذه الخطة، ولكن الخطة نفسها توضح أيضا بزوغ نجم منافسين جدد للبنوك وهى شركات التكنولوجيا المالية Fintech والتى ستصبح لاعب رئيسى فى الاقتصاد العالمى فى السنوات القادمة.
مدير صناديق استثمار دولية