بقجة العام الجديد - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بقجة العام الجديد

نشر فى : الأربعاء 4 يناير 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 يناير 2017 - 9:10 م
هكذا نبدأ سنة جديدة، فنحمل متاعنا وما زدنا عليه ونمشى نحو الجديد. أنا اعتبرت السنة المنصرمة بقجة قررت أن أصرها على ما فيها، لكنى، وما أن بدأت بالضغط على أطراف القماش كى أربطها، حتى ظهرت لى من هنا صورة أولادى وهى تحاول الخروج من طرف أحكمت لفه، ومن الفتحة الأخرى تسللت صورة بيتى فى دمشق، تحاول الإفلات من بين طرفى الصرة حتى تبقى خارجها، فيعيش البيت معى عاما جديدا.

من منا لا يعد نفسه ببعض التغييرات وهو على عتبة مرحلة جديدة، حتى ولو نفى ذلك حين يسأله الآخرون عن خططه. أشعر وكأننا بدخول عام جديد فإننا نخطو خارج دائرة رسمناها بالطبشور على الأرض. نضع أول قدم خارجها، نتلكأ قليلا فتبقى قدمنا الأخرى داخل الدائرة. نريد أن نعيد القدم حيث كانت، لكن صفحة السنة القديمة قد طويت، لذا نخرج قدمنا الثانية خارج الدائرة وننظر حولنا. ثمة طباشير ملونة مرمية على الأسفلت من حولنا. أنا من جهتى، وفى الأسبوع الأول من سنة جديدة لا توحى بعد بما تحمل، أجد نفسى أقف حائرة على الأرض الرمادية الباردة. عادة ما أرسم قصصى بطباشير ملونة لكننى أجد صعوبة اليوم فى تخيل ما ينتظرنى فى العام الجديد.

***

فى البقجة التى سأحملها معى أطوى ضحكة طفلتى التى تذكرنى كل مرة أن طفلات كثيرات لسن فى أحضان أمهاتهن. فى البقجة أرص صور بيتى كى أتذكر من رحلوا عن بيوتهم بسبب الحروب وموجات التشرد. أطرز قماش بقجتى بأسماء من أحب وخصوصا أولئك البعيدون الذين أشتاق إليهم رغم الجفاء الذى ساد العلاقة بيننا. أتفنن بخط أسماء الناس والمدن حسب التسلسل الأبجدى. يتحدث من حولى عن تغييرات كثيرة تطال عالمى، ومدن تختفى لتظهر مكانها أسماء قديمة بنفس جديد. أنا أكتب على بقجتى «القاهرة، بغداد، بيروت، حلب، دمشق..». أطرز على القماش وعلى ذاكرتى أحداث سعيدة أريد أن أحملها معى إلى العام الجديد، بينما أحاول إخفات أصوات لأحداث لا أريد أن أحتفظ بها.

لائحة ما سأحمله معى تطول: الأصدقاء الذين لا يملون من مرافقتى فى مغامراتى التى قد تكون متعبة، العائلة التى لم أخترها ولم تخترنى إنما اخترنا معا أننا سوف نتصرف كمجموعة على قلب واحد حتى لو اختلفنا، زوجى الذى اخترته وسوف أختاره كل يوم، الأطفال طبعا فهم يرغموننى طوال الوقت على اكتشاف جمال من حولى لم أكن سأنتبه له لولا قدرتهم على التعبير الخالى من أى مصفاة مجتمعية. سوف أحمل معى فى البقجة صورا كثيرة لأناس لا أعرفهم إنما راقبتهم فى الشارع، فى المقهى، فى محطات القطار أو فى المواصلات العامة، فمن بعض كلمات التقطها دون أن يشعروا بوجودى، أو من تغيير ملامح لاحظتها وأنا أختلس النظر إليهم، نسجت قصصا عن حياتهم ربما تعكس قصصى وقصص من أحب، فوجدت نفسى أتلمس العذر لقريبة كنت قد غضبت من كلامها فى السابق، أو راجعت موقفى من موضوع خلاف بينى وبين أحد والدى بعد أن وصلتنى كلمات سيدة فى المقهى وهى تتحدث مع سيدة أخرى عن ابنها أو ابنتها.

***

تنتفخ بقجتى ويضغط قماشها على ما بداخلها. أحاول جاهدة ربط القماش لكنه صار صغيرا على ما فيها. أفك البقجة لأنظر فى محتواها علنى أستطيع أن أتخلص من بعضه، فالوقت أمامى قصير، وعلى أن ألحق بخطواتى فى العام الجديد وإلا فسوف أبقى فى الخلف. أتخيل أننى كما أفك شنطة السفر حين يثقل وزنها فأسحب منها بعض الثياب التى أرى أننى أستطيع الاستغناء عنها، فإننى سوف أتعامل مع بقجة العام الجديد بنفس الطريقة. سوف أعيد ترتيب الأوليات، وسوف أضطر أن أضع جانبا ما قد يبدو لى أنه أقل أهمية. أدخل رأسى بين الصور فترقص وجوه من أحب من حولى: من أودع منكم؟ من أفضل على من؟ ما أقسى هذه الخيارات، ما العمل لمن يريد الاحتفاظ بكل شىء مثلى؟ أسحب أغنية محببة من فم صديقى الموسيقى، قد لا أحتاجها فى رحلتى، وإن رميتها فسأضع مكانها شيئا أهم. ينظر إلى صديقى بعتب فأترك أغنيته فى البقجة معه. نعم لقد رددناها مرارا وفى بلاد مختلفة، حين كنا نشعر بالحنين إلى مدينتنا وإلى أصدقائنا الغائبين. أقول لنفسى أن بإمكانى أن أتخلى عن صورة قديمة جمعتنى بأناس لم أعد أتذكر بعضا منهم، فتنهرنى أمى وهى تهز رأسها وترفع حاجبيها: ألا تتذكرين العمة الكبيرة؟ وكيف كانت تعض يدك الصغيرة وتقول «انظرى لقد صار لك ساعة فى رسغك»، وهى تشير إلى مكان أسنانها على جلدك. لا أعرف لماذا تطلب منى والدتى أن أحتفظ بذكرى سيدة كان تعض يدى لكن ما علينا، سوف أبقيها هنا فى البقجة كرمى لوالدتى.

***

تدق الساعة معلنة عن منتصف الليل، فأحمل بقجتى دون أن أربط أطرافها وأمشى نحو السنة الجديدة. أكتشف أنه ورغم امتلائها فهى ليست ثقيلة، بل على العكس هى التى تشدنى بخفة فأترك لها القيادة. تقرر بقجتى أن تنتقل معى كما هى، بضحكات من أحب وأغانى من أشتاق إليهم، تقرر أننى دونهم لست أنا، وأن هويتى ملتصقة بالمدن وناسها حتى ولو لم أرهم منذ سنوات. ننتقل أنا وبقجتى ومن أحب كتلة واحدة إلى العام الجديد، فلا تفريط لا فى البقجة ولا فى الحب.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات