من رابعة العدوية إلى تلميذ الإمام الشافعى - علاء عبدالعزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 1:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من رابعة العدوية إلى تلميذ الإمام الشافعى

نشر فى : الإثنين 4 مايو 2009 - 5:49 م | آخر تحديث : الإثنين 4 مايو 2009 - 5:49 م

 صرخ خطيب الجمعة مخبرا المصلين بأنه سيلخص رسالته هذا الأسبوع فى قصتين تحملان من العظات ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدا، القصة الأولى للسيدة «رابعة العدوية» التى أقامت ليلتها ــ بعد أن تاب الله عليها ــ بالصلاة والتسبيح والدعاء حتى غلبها النوم فى مكانها، بينما اجتمع خارج غرفة نومها قوم من الفجرة يحتسون الشراب وتتنازعهم أهواء شيطانية، ثم كان أن تلاعبت الخمر برأس أحدهم فسألهم إن كانوا يريدون أن تخرج عليهم الفاتنة «رابعة» عارية كما ولدتها أمها، فتساءلوا مستنكرين: كيف وقد هداها الله؟ فأكد لهم السكير الفاسق أنه لن يعدم الحيلة ليحقق لهم مرادهم، إن كان هذا حقا ما يبتغون، ولما صاحوا مباركين الفكرة، دلف الرجل إلى حيث ترقد «رابعة» وأخذ يجمع جميع ملابسها فى حقيبة حتى إذا صحت من نومها لم تجد ما تستر به جسدها فتهرول إلى ردهة المنزل (حيث مجلس الخمر) باحثة عما ترتديه فتنكشف عوراتها على الجالسين، إلا أن عين الخالق التى لا تنام كانت للسكير بالمرصاد.. فكلما حمل حقيبة الملابس الممتلئة وهم بالخروج من غرفة «رابعة» استحال باب الحجرة إلى حائط صلد لا مهرب منه.. وكلما ترك الحقيبة خلفه انفتح باب الغرفة أمامه على مصراعيه، ومع تكرار تحول الباب إلى حائط والحائط إلى باب خر الرجل ساجدا معلنا إسلامه وراجيا مغفرة ربه الذى رأى من آياته الكبرى.

كان جزء الخطبة الأول انقضى وقد استبد بى الغضب لكنى كظمت غيظى وعزمت على أن أقابل الخطيب بعد انتهاء الصلاة لأحاوره بالأدب الذى يفرضه السياق والمقام كى يفهمنى كيف تأتى له أن يروى تلك القصة دون أن يمحصها بعقله ويسأل نفسه على الأقل أربعة أسئلة: لماذا تنام السيدة الورعة بعد التهجد عارية تماما؟ ولماذا تستضيف فى ردهة منزلها العامر بالإيمان مجلس خمر يجمع الفجرة مع الكفرة؟ ثم هل كان سياق القصة وشخوصها يستدعيان تدخل الخالق بمعجزة تشبه معجزات الأنبياء؟ وأخيرا فما حكم الدين فيمن يتخذ قرارا باعتناق الإسلام وهو تحت تأثير الخمر؟

فى الجزء الثانى من الخطبة قص علينا الخطيب أن الإمام الشافعى ضرب موعدا لواحد من تلاميذه فى أحد الشوارع، وقد تعمد التلميذ المهذب أن يصل إلى المكان الموعود قبل أستاذه، وبينما هو واقف ينتظر نادته امرأة حسناء من شرفة الطابق الثانى فى البناية التى كان منتظرا بجانبها، راودته المرأة العاهرة عن نفسه فلم يستعصم وصعد من فوره إلى شقتها.. وما أن خلعت ملابسها حتى تذكر خالقه فاستغفر وحاول التملص منها.. لكن هيهات.. كانت الرغبة قد استبدت بالمرأة اللعوب فرفضت تمنعه واعتلته، لم يجد الرجل الأواب إلا الحيلة مهربا فقال لها إنه لا يستطيع ممارسة الفحشاء وهو جائع.. فقدمت له الطعام متأففة، إلا أنه فاجأها بالقول بأن الطعام ليس طازجا وأنه يريدها أن تشرع فى إعداد وجبة جديدة ساخنة.. نهرته العاهرة بقاموس من البذاءة والألفاظ النابية فهرب من الموقف بآخر ما فى جعبته من حيل إذ ادعى حاجته لدخول الحمام.. استغل الرجل خلوته هناك ودعا ربه قائلا: اللهم إنك قلت وعز من قائل: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» فأين المخرج يارب؟.. أين المخرج يارب؟ وظل الرجل يرددها حتى انفلق الحائط وتبدى من العدم سلم هبط عليه إلى حيث كان الإمام ينتظره. وعندما سأل الشافعى تلميذه عما كان يفعله بالطابق الأعلى كذب عليه كى يدارى ضعفه وسقطته، فما كان من الإمام إلا أن قال له: كيف تخدعنى وقد كان ظهرى لك سلما؟

بلغ الإحباط بى مبلغه ولم أجد فى نفسى أى رغبة فى محاورة الخطيب.. لم يكن ما أحبطنى فساد منطقه وركاكة لغته فحسب، بل علامات الرضا والحبور على وجوه المصلين الذين بدوا متأثرين بـ«حكمة ما» جرت على لسان الخطيب وضلت طريقها إلى عقلى. عدت أدراجى وبات الهم معى. وفى اليوم التالى، حاولت الاستشفاء بمطالعة مقال للدكتور عز الدين شكرى بعنوان «أكله الذئب يا أبى» (الشروق فى 18 أبريل 2009).. منيت نفسى بالسلوى لما أعرفه عن الكاتب من جمع محمود بين ملكة القص ومعايشة السياسة الإقليمية.. متوجا ذلك بمكانة أكاديمية مرموقة.. على أن الإحباط كان مصيرى مجددا.

يدعونا الكاتب إلى التأسى بنبى الله «يعقوب» الذى قادته حكمته إلى صب لومه على ابنائه إخوه «يوسف» عليه السلام لأنهم لم ينتبهوا لأخيهم بما فيه الكفاية ولم يتحسبوا لغدر الذئب، يستحثنا الكاتب على أن ندرك مغزى إحجام «يعقوب» عليه السلام، عن لوم الذئب لأنه أدرك بنافذ بصيرته «أن الذئب لا يلام» إذ لا يتوقع منه إلا الخسة والجشع والعدوان والإجرام.. الدرس الذى يدعونا الكاتب إلى تعلمه ألا نلوم إسرائيل على ما تقترفه من جرائم فى فلسطين ولبنان فلا يجوز أن نتوقع من الذئب أن يحنو على الحملان، بل ينبغى أن نلوم القادة (المقصود حماس وحزب الله) الذين خانوا أمانة المسئولية (كخيانة أخوة «يوسف») واتخذوا من القرارات المتهورة ما أزهق الأرواح البريئة لمواطنيهم فى مغامرات طائشة غير محسوبة.

تلك دعوة لأن نغمد سيوفنا فى صدور المقاومين الذين يجلبون علينا الدمار والهزيمة ونترك العدو لحاله.. إما لأنه مجرم لا شفاء من إجرامه أو لأنه لا قبل لنا بمواجهته من فرط قوته.. أى منطق هذا الذى يتجاهل حقائق القصص القرآنى ويتجنى على دلالاته التاريخية؟ ألا يعرف الكاتب الأريب أن ابن «إسحاق» عليه السلام أدرك بحدسه النبوى أن الذئب برىء من دم «يوسف»، وأنه ما كان لنبى أن يلوم بريئا؟ وما وجه الشبه بين براءة الذئب وعدوانية إسرائيل؟ (اللهم إلا إذا كان المقصد هو تبرئة المعتدى الذى لا يلام)، ثم كيف نشبه أخوه «يوسف» عليه السلام بكل خستهم بأناس نذروا حياتهم لتحرير أوطانهم وضحوا بأنفسهم قبل أن يعرضوا إخوتهم لشرف الموت وعزة الفداء؟ ألا يرتبط ذلك التشبيه غير الموفق ارتباطا وثيقا بإيمان الكاتب بأن حركات التحرر الوطنى كالشركات يقاس نجاحها بحسابات الأرباح والخسائر المادية (الشروق فى 11 أبريل 2009)؟ وأخيرا، كيف تنطلى على عقل الكاتب المثقف مقولة إن العدو مجرم عتيد ولكنه مسكين يقف مكتوف الأيدى مكبل عن البطش والعدوان حتى يتطوع الطائشون منا فيعطوه بتهورهم الأحمق ذريعة للاعتداء علينا؟


بقى للمرء أن يسأل الكاتب تماشيا مع المثل الذى اختاره: لو فرضنا جدلا أن الذئب كان قد قتل «يوسف» عليه السلام ونصب نفسه ملكا على أرضه.. ونمى ذلك إلى علم أبيه، ثم حدث أن رأى الأب المكلوم الذئب القاتل.. أتراه كان سيربت على ظهره (لأنه لا يلام بحكم وحشيته التى جبل عليها) أم كان سيقتله بيديه العاريتين ولو ضحى بحياته فى المواجهة؟ ليس بوسعى أن أتطوع بالإجابة عن سؤال افتراضى، على أن يقينى أن قراره لم يكن سيتأسس على حسابات موازين القوى، بل على مبادئ الشرف التى عزت فى هذا الزمن الردىء.

التعليقات