يبدو أن رسالة تطهير النظام قد وصلت للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. فمنذ جمعة التطهير فى 8 أبريل 2011 والتى رفعت شعار «الشعب يريد تطهير البلاد» وأكدت سريان الشرعية الثورية، ومشهد استحقاقات العدالة انطلق ككرة ثلج تتسع لتلاحق الرموز الفاسدة. فالرئيس المتنحى مبارك محبوس احتياطيا قيد تحقيقات النيابة العامة فى الأحداث المرتبطة بثورة 25 يناير وتضخم الثروة. كما يخضع أولاده وعدد كبير من رموز نظام حكمه للحبس الاحتياطى والتحقيقات الجنائية.
إذا نجح الادعاء فى إثبات أن القيادة السياسية كانت على علم بأوامر إطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين أثناء الثورة فذلك سوف يفتح الباب أمام محاكمة مبارك جنائيا فى أول سابقة من نوعها فى محاكمة الرؤساء فى تاريخ العالم العربى الحديث.
ويرى حقوقيون كثر أن الجرائم المرتبطة بثورة 25 يناير تكيف على أنها «جرائم ضد الإنسانية» وهى واحدة من الجرائم الأربع الكبرى المنصوص عليها فى اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية. ولا يمكن للمحكمة الجنائية أن تلاحق مصر جنائيا إلا بقرار إحالة من مجلس الأمن أو إذا تبين للمحكمة أن القضاء المصرى لا يرغب أو لا يستطيع إجراء المحاكمات الجنائية بشكل عادل.
ويأتى تصريح وزير الخارجية نبيل العربى مؤخرا بأن مصر بصدد الانضمام إلى كل اتفاقيات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان والتصديق على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية ليؤكد على أن مصر بعد الثورة أصبحت دولة تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان تجاه شعبها والعالم أجمع.
مفهوم العدالة الانتقالية
هى الإجراءات التى تتخذ فى الفترة الانتقالية من نظام ديكتاتورى / سلطوى إلى نظام ديمقراطى. وتمثل العدالة الجنائية إحدى أهم ركائز تلك المرحلة الانتقالية كما حدث فى تجارب بلدان كثيرة. ولكن مفهوم العدالة وحدودها عادة ما يكون له سقف هو ما يتفق عليه شركاء الوطن خلال المرحلة الانتقالية. ففى تشيلى والأورجواى وجنوب أفريقيا توصلت المؤسسات العسكرية هناك، التى كانت تمسك بمقاليد السلطة، إلى تفاهمات مع رجال العهد الجديد ضمنت العفو وعدم الملاحقة الجنائية للقيادات العسكرية. وقد حدث عكس ذلك تماما فى الأرجنتين واليونان وبوليفيا حيث أجبرت الظروف السياسية والثورات العسكر على الخضوع للملاحقات الجنائية. وهناك من يرى أن التركيز بشكل أساسى على العدالة الجنائية الرادعة كآلية أساسية للانتقال من عهد إلى عهد هو فهم ضيق وقاصر لمفهوم العدالة المطلوبة خلال الفترة الانتقالية. فهناك تجارب تم التركيز فيها على العدالة الاجتماعية أو العدالة بمفهوم المنهج الإصلاحى للجانى والضحية وهناك فهم للعدالة كإعلاء من قيمة الإنسان والكرامة الإنسانية.
وأيا كان مفهوم العدالة الذى سيتفق حوله شركاء الوطن لإدارة المرحلة الانتقالية فهناك آليات مختلفة للعدالة الانتقالية. من هذه الآليات: الإصلاح المؤسسى الأمنى، تعويض الضحايا، إظهار الحقيقة، إحياء الذكرى.
ينتظر أن يتابع المراقبون باهتمام بالغ تجارب مصر وتونس فى الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية لأنهما تجربتان ناجحتان فى إسقاط رأس النظام ونابعتان من ثورتين شعبيتين دون أى تدخل أو ضغوط أجنبية. وهو ما لا يمكن قوله فى تجربة العراق الذى أطاح الغزو الأمريكى برئيس دولته صدام حسين وبمؤسسات الدولة.
وحول علاقة الديمقراطية بالعدالة عقد مؤخرا بتونس مؤتمرا دوليا حول «العدالة فى الفترات الانتقالية: معالجة انتهاكات الماضى وبناء المستقبل». وقد أوضح رئيس المركز الدولى للعدالة الانتقالية ديفيد تالبورت فى كلمته الافتتاحية أن العدالة الانتقالية تتعامل مع الماضى من منظور كاشف لمحاسبة الذين اقترفوا انتهاكات ولكشف الحقيقة ولتحديد الضحايا ووضع الآليات التى تحول دون حدوث انتهاكات مماثلة فى المستقبل. وقد اعتبر السيد عبدالباسط بن حسن رئيس المعهد العربى لحقوق الإنسان أن التحول السياسى نحو الديمقراطية بتونس يكون منقوصا إذا ما لم تمثل العدالة جزءا أساسيا من مكوناته.
مصر تحتاج أيضا، وهى تنتقل بفضل ثورة 25 يناير إلى عهد جديد، إلى تفعيل الآليات المختلفة للعدالة الانتقالية من: تطهير المؤسسات، وإجلاء الحقيقة، وإحياء الذكرى.
صناعة القرار وتطهير المؤسسات
تدل تجارب الشعوب التى عاشت فترات الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية أن هناك حقيقة أخلاقية مركزية تحكم منهج هذا التحول: هى أن الشعوب التى عانت لفترات طويلة من ممارسات حكم عنيفة وغير شرعية تريد قطع باب العودة إلى هذه المظالم وتريد فى نفس الوقت التأسيس لحكم رشيد يقوم على أساس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
وفى مصر فالمشاركة فى صنع القرار وتطهير المؤسسات التى كرست نهج الانتهاكات والتضليل (وبخاصة الأمن والإعلام ) هو ضرورة لا ترف. فتغيير اسم جهاز أمن الدولة دون ممارساته وتغيير بعض قياداته دون عقيدته الحاكمة غير مقنع بالنسبة للكثيرين. ولعل وزير الداخلية يستمع إلى مناشدات (الائتلاف العام لضباط الشرطة) الذين طالبوا فى بيانهم المنشور (الدستور 24/4) بتطهير الوزارة من رموز القيادات الحالية. ومن أهم الأسباب التى ذكروها فى بيانهم: ولاء هذه الرموز وارتباطها الوثيق بالنظام السابق، سوء الإدارة الأمنية للجهاز ككل قبل أحداث الثورة، سوء الإدارة واتخاذ القرارات اللازمة للتغلب على الانفلات الأمنى بعد الثورة.
إجلاء الحقيقة
شهد العالم منذ السبعينيات حتى اليوم تشكيل 40 هيئة وطنية للحقيقة والمصالحة فى الدول التى سقطت فيها نظم حكم ديكتاتورية. تختلف تجربة الأرجنتين كليا عن تجربة جنوب أفريقيا فى النهج الذى اتبع لتحقيق العدالة وكشف الحقيقة. فقد أوصت مفوضية الحقيقة فى الأرجنتين فى عام 1984، بعد تسعة أشهر من التقصى، بالمحاكمات الجنائية وتعويض الضحايا وبالفعل تمت إدانة 5 من كبار جنرالات الجيش. إلا أن الشد والجذب بين الحكومات المدنية والمؤسسة العسكرية التى هددت بانقلابات عسكرية فى حال استمرار الملاحقة الجنائية أدى إلى إصدار عدة قوانين للعفو أوقفت فعليا أى ملاحقات جنائية جديدة تجاه المتورطين فى فترة «الحرب القذرة». ولكن بعد مرور عشرين عاما على إصدار تلك القوانين قضت المحكمة الدستورية العليا فى عام 2003 بعدم دستوريتها وهو ما أدى إلى توجيه 1400 اتهام جديد وإصدار مائة حكم بالإدانة حتى عام 2010 على المتورطين فى فترة «الحرب القذرة».
وعلى عكس هذه التجربة ضيقت جنوب أفريقيا فى بداية التسعينيات من نطاق الملاحقات الجنائية للمتورطين فى الانتهاكات التى وقعت إبان حكم الفصل العنصرى. فقد دفعت المواءمات والتوازنات السياسية إلى التركيز أكثر على ضرورة إجلاء الحقيقة، والتأهيل النفسى وتعويض الضحايا، وإحياء الذكرى. ووسعت الحكومة فى الفترة الانتقالية من برامج تحقيق العدالة الاجتماعية.
وقد وجهت انتقادات كثيرة لتجربة الحقيقة والمصالحة فى جنوب أفريقيا بسبب ما وصف بتقليص نطاق الملاحقات الجنائية وبطء إجراءات التقاضى وعدم التعويض الشامل لمئات الآلاف من الضحايا. وقد دافع قادر أسمال أحد المسئولين السابقين بمفوضية الحقيقة والمصالحة عن الفلسفة الحاكمة بقوله إن هدف سجن رئيس الجمهورية السابق P.W. Botha كان أقل أهمية فى نظره من محاربة أركان نظامه فى مسعاهم لاستمرار سياسات الفصل العنصرى الاقتصادية والاجتماعية التى أذلت وأفقرت الشعب.
وفى حالة مصر التى تشهد تعقيدات وحالة سيولة خلال هذه الفترة الانتقالية، ربما يكون الأوقع والأكثر فائدة إنشاء مفوضية للحقيقة والمصالحة بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية. فعمل مثل هذه الهيئات الوطنية لابد أن يكون حوله توافق وطنى عام. وتنشأ المفوضية بتشريع برلمانى يحدد الهدف من ورائها ونطاق صلاحياتها والميزانية الخاصة بها وطريقة اختيار أعضائها.
تؤكد خبرات الشعوب التى مرت بتجارب سابقة فى الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية على أهمية إجلاء الحقيقة بكل شفافية لكى تلتئم آلام الشعب ويرتدع كل من تسول له نفسه على ممارسة الاستبداد وتتذكر الأجيال القادمة المظالم والضحايا وكيف سقطوا.