رسم الفنان السورى فاتح المدرس لوحة يقال أن اسمها «المسيح يعود إلى حلب»، يظهر فيها وجه نحيل يٌذَكِر بأيقونات الكنائس؛ نصف الوجه الأيمن لونه أحمر صارخ، العينان غائرتان من الحزن والفم المقوس إلى الأسفل يختفى وراء لحية شقراء، فى شعر الرجُل خيوط من الذهب تلمع فتنعكس على حمرة الوجه ليصبح مزيج الأحمر والذهبى وكأنه نار تلتهم الوجه.
رسم الفنان السورى لؤى الكيالى لوحة يقال أن اسمها «ماذا بعد» تظهر فيها نساء متشحات بالسواد، وجوههن مصفرة وتمسك بعضهن أطفالا بينما تقف سيدة فى وسط اللوحة منحنية الظهر والرقبة بانكسار وقد خذلتها قواها فبدت وكأنها على وشك الانهيار، لا رجال فى اللوحة، فقط نساء حزينات وأطفال يظهر عليهم المرض والموت.
***
فى أسبوع الآلام، الأسبوع الذى يتذكر فيه المسيحيون الشرقيون دخول يسوع القدس وصلبه وموته، ثم قيامه من الموت فى يوم أحد القيامة ــ بحسب المعتقدات المسيحية، فى الأسبوع نفسه، يبدو أن قرارا اتُخِذ بصلب حلب، صلب مدينة سورية بأكملها. ذات الأسبوع ظهرت اللوحتان على شبكات التواصل الاجتماعى بكل ما فيهما من رمزية، موت الشباب وثكل الأمهات، فتلك المدينة العريقة القديمة التى لم تفرغ يوما من السكان خلال تاريخها، نراها تتفتت على شاشات التلفزيون والحواسب فنصرخ افتراضيا «حلب تحترق».
يلمع المربع الأحمر الصغير على شاشتى التى تزدحم بصور الموت والدم، يكاد الحاسوب أن يصرخ فى وجهى سائلا ما الذى أفعله أمام الشاشة بينما تنهار مدينة بأكملها على رأس سكانها. أشيح بوجهى علنى أتفادى عيونا إضافية تبحلق فى بعد أن فارقت أجسادها الحياة. أنظر أمامى فأرى أطفالى يمرحون لكنى أسمع بدلا من أصواتهم بكاء أطفال عُلِقوا تحت الأنقاض. تدخل أمى إلى الغرفة التى أجلس فيها لتقول لى شيئا لكن بدل صوتها أسمع شهيق أم حلبية فقدت للتو أولادها، يريد زوجى أن يلفت نظرى إلى شىء لكن مكان صوته تخرج كلمات ذلك الرجل الذى يتوسل أن يبحثوا له عن آخر ابن يأمل ألا يكون قد قُضى عليه تحت القصف مع إخوته.
***
كجوهرة على التاج السورى، لم تكن حلب يوما مدينة سهلة المنال، حلب مدينة تدعو زائريها أن يَضيعوا فى شوارعها ولا تدلهم على الطريق؛ فهى تعرف أن لكل زائر طريقه، تفرش أمامهم خيراتها فيَضيعون فى كرمها، تتلألأ أمامهم حتى تكاد تخطف أبصارهم بجمالها. حلب مدينة الحرير والموشحات وصابون الغار ها هى معالمها تختفى أمامنا بعد أن حاكت لكل منا ثوبا من القصص نلبسه هذا الأسبوع إعرابا عن حبنا لها، حلب التى حافظت على أسرارها ولم تبُح بها سوى لمن أحبت هى، مدينة القصص الخفية والحب المسروق، لطالما قيل أن دمشق كانت تغار من سحرها، حتى أن شاعر دمشق الخالد شعره نزار قبانى قال فيها «كل دروب الحب توصل إلى حلب». وصف السوريون أهل حلب بجمال الوجه وثقل الدم واللهجة، وها هى تذوب بجمالها ولهجتها ودمها كقطعة ثلج رميت تحت شمس حامية، مع كل نقطة دم تذوب من وجه الثلجة تظهر لنا لوحة للقلعة، للجامع الكبير، لكنيسة السريان ودير اللاتين ولبيوت وأسواق وخانات المدينة القديمة.
***
حلب مدينتى، رغم أنى لم أقم فيها قط، فقط كنت أزورها فى المناسبات العائلية، لذا فذاكرتى عنها ممتزجة بما حكاه لى والدى الحلبى الأصل وأقرباؤه، حتى أنى لم أعد أعرف إن كنت فعلا قد جلست أُبحلق فى السماء والنجوم فى باحة المسجد الكبير، فأغلق حراسه بابه دون أن يرونى وحبسونى داخله، أم أن تلك كانت إحدى روايات والدى. لا أذكر إن كنت قد سرقت مع زملائى فى الفصل النبيذ المعتق من داخل مدرسة الرهبان المريميين كى نشربه ونحن طلاب فى مدرستهم، أم كانت هذه قصة والدى التى حكاها لى مرات كثيرة حتى نسبتها لنفسى.
لا أعلم إن كانت هذه فعلا المدينة التى سهرت فيها على إيقاع الدراويش فنقلونى إلى ما بعد الدنيا وما بعد الإنسان، يلفُون بتنانيرهم البيضاء فتلف معهم الروح وهم يرددون مدد مدد مدد. هل هذه فعلا مدينة الجوامع والكنائس ومعقل المطبخ الأرمنى فى المشرق، حيث لا مثيل فى العالم لألوان ونكهات طاولة الطعام فيها؟ هل هذه جوهرة الشمال وعاصمة الحرير وآخر طريقة الضارب فى التاريخ ومدينة الأسرار التى قال فيها أبو فراس الحمدانى: «لقد طُفت فى الآفاق شرقا وغربا، وقلَبت طرفى بينهما متقلبا، فلم أر كالشهباء فى الأرض منزلا»؟
***
أتمسك بما أتذكره عن حلب حتى أحكيه لأولادى يوما ما، لا رثاء لحلب، فهى تحرق القلوب. أمسك بيدى الطفلين لنمشى تحت سماء القاهرة فأُقربهما منى، أريدهما أن يلتصقا بى علهما يخففان من انهيار مدينتى. ماذا سأقول لأولادى فى المستقبل، أننا وضعنا مربعا أحمر صغيرا على حساباتنا على الشبكات الاجتماعية، ووقفنا ننتظر أن يقف القصف؟ أننا أعدنا تدوير لوحات فنانى حلب الكبيرين لنتذكر آلام المسيح عند فاتح المدرس واحتراق قلب الأمهات عند لؤى كيالى؟ فى القرن الواحد والعشرين حيث كل جرائم الحرب مفندة بدقة فى النصوص القانونية وكل الجرائم مسجلة على الإنترنت كيف لم تتوقف المذبحة؟ سوف يسألنى الأولاد: وبعدين شو صار؟ ولن أعرف أين أختبئ.