فى كتابه الرائد «من المهد إلى المهد» كتب المعمارى الأمريكى وليام ماك دونو وشريكه الكيميائى الألمانى مايكل براونجارت أن كل المنتجات يجب فى النهاية أن تصير إما «مغذيات تقنية» ــ أى مواد يعاد استخدامها فى مصنعات أخرى ــ أو مغذيات بيولوجية تتحلل فى التربة، وبالنسبة لماك دونو فإن النفايات أو المهملات عيب فى التصميم وهو يشير إلى أن الطبيعة لا تنتج ما يسمى نفايات.
الموارد المهملة مثل جريد النخل الناتج من التقليم السنوى للنخيل أو «بواقى الطبيعة» كما يسميها الدكتور عبدالفتاح الموصلى يمكن تحويلها من خلال عدة اختراعات إلى مصنوعات خشبية مثل الخشب اللوحى المعروف باسم الكونتر، وأيضا يمكن استخدامها فى عمل أنواع متعددة من الأثاث، الذى بالإضافة إلى أنه أكثر استدامة، يمكن أيضا أن يوفر جزءا كبيرا من الاعتماد على استيراد الأخشاب. ربما ما تزال تلك المساهمة الرائدة بحاجة لمزيد من التطوير فى التقنيات والتصميم بصورة أكثر كثافة حتى يمكن أن يكون بديلا أكثر قربا للمستخدم فى مصر ومنافسا للأخشاب المستوردة، كما سيُمكّن ذلك من خلق وظائف عديدة ورفع مستوى معيشة العديد من سكان المناطق التى هى بحاجة لتنمية مستدامة.
***
الإشكال الرئيسى الذى تواجهه البشرية من تغير مناخى وتداعى التنوع الطبيعى مرتبط بشكل أساسى بهذا القدر المهول من الاستهلاك، الذى يعد أخطر من تزايد السكان كأحد العوامل الضاغطة على الموارد البيئية، فالأرقام تشير لتزايد الاستهلاك بوتيرة مرتفعة تقارب 3% سنويا مقارنة بـ 1% سنويا لزيادة السكان.
أدى هذا الاستهلاك إلى تحويل أجزاء كبيرة من الغابات المطيرة إما لمزارع نخيل الزيت أو مزارع لتربية الماشية، كما أدى استهلاك المواد مثل الزجاجات البلاستيكية احادية الاستخدام والتى تنتهى معظمها فى المحيط إلى تلويثه. ولسنا فى الحقيقة ببعيدين عن تأثير المخلفات الناتجة عن الاستهلاك المتزايد، ويكفى أن تنظر لشوارعنا فى المدن والقرى والمناطق الغنية والفقيرة، وإن بأنماط وكميات مختلفة، لكى ترى المخلفات المتنوعة... ثم تخيل مثلا أن جزءا كبيرا، إن لم يكن كل، المخلفات العضوية الخضراء (من الخضراوات والفاكهة والنباتات بصفة عامة)، تم تحويلها إلى سماد أو تربة زراعية... كم سنكسب من تقليل تلك المخلفات وكم سنكسب من السماد والتربة الزراعية التى من الممكن أن تستخدم فى الزراعة الحضرية على أسقف المدارس وفى الحدائق الصغيرة المتاحة بين المساكن أو فى أماكن أخرى لتنتج ما يمكن أن يؤكل بدون استخدام أسمدة صناعية. طبعا لو أمكن دمج ذلك فى مدارسنا المختلفة سوف نخلق فرصة تعليمية حقيقية للصغار ونبدأ فى التحول لمجتمع يهتم أكثر بالبيئة والصحة العامة. تمثل أنواع متعددة من المخلفات كالملابس تحديا كبيرا فى التعامل معها وضرورة كبرى لما يمثله إنتاج تلك الملابس من استهلاك كبير للموارد الطبيعية المحدودة مثل المياه. وبالمثل فإن الخضراوات والفاكهة المهدرة فى عمليات الجمع والنقل والتى تمثل نسبة لدينا تقارب الثلث، يظهر بوضوح ضرورة وأهمية التعامل مع المخلفات بصورة مختلفة جذريا عما يحدث حاليا.
***
ابتكرت كيت روورث مصطلح «اقتصاد الدونت» ــ الفطيرة المحلاة على شكل حلقة والمنتشرة فى الغرب خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية. كانت النتيجة الأولى لاقتصاد «الدونت» التركيز على مفهوم الاقتصاد الدوار أو الاقتصاد الذى يعتمد على المواد والموارد المتجددة، الذى لا ينتج مخلفات تماما مثل الطبيعة بما فيها من تجدد وإتقان. تم منذ أيام إعلان المسودة الأولى التى بها تخطط مدينة امستردام الهولندية التحول لهذا الاقتصاد الذى يتبنى فكرة جوهرية هى «الازدهار» وليس التنمية التى فى مفهومها التقليدى تفترض الزيادة التى لا تتحملها البيئة الطبيعية التى نعيش فيها.
ربما يتذكر الكثير منا بائع السميط يحمل كمية كبيرة من السميط الموضوع على مجموعة من الأخشاب الرفيعة وموضوعة فى السبت الشهير. والسميط، على عكس «الدونت»، يؤكل بخليط من الملح والفلفل والكمون. ونحاول منذ عدة سنوات دراسة التبعات العمرانية والبيئية لهذا الاقتصاد الذى من الممكن أن يستلهم دائرية هذا السميط، وهو المجاز الذى يعبر ليس فقط عن اختلاف ثقافى ولكن أيضا عن ظروف محلية مختلفة تماما ربما يكون لها استجابات مختلفة. هى محاولات تستند على دراسات لجغرافيات مختلفة داخل مصر وتدور أيضا فى حلقات.. حيث نبدأ بأسئلة وملاحظات أولية، ثم نحاول الاجتهاد فى الرد عليها وتحسين تلك الاستجابات الأولية لأسئلتنا ونوعية المعارف والبيانات المطلوبة لبداية حلقة جديدة من استكشاف وتساؤل أكثر جدية يحمل إمكانات للتعامل مع الظروف المعقدة لواقعنا. وبالرغم من أن بعض من الأنشطة الاقتصادية المحلية يمكن البدء فى تحويلها إلى أنشطة دوارة، لكن البعض الآخر ــ كما وجدنا من خلال الدراسات ــ يستلزم ابتكارات أخرى تحتاج المزيد من العمل. لكن فى كل الأحوال يجب البدء فى عملية التحول تلك فى أقرب وقت ممكن لأنها عملية معقدة وتستلزم ليس فقط إبداعات تقنية وأفكار تصميمية خلاقة ولكنها تستلزم أيضا ابتكارات تستهدف إشراك المجتمع المحلى وليس فقط مجرد التوعية وهذا الجانب ربما يكون الأكثر تحديا.
يشير العديد من العلماء والناشطين فى مجال البيئة أن ما فرضته الجائحة الحالية على البشرية والذى مثل للبعض كوابيس غير متصورة فى حقيقته لا يقارب التحدى الذى يفرضه التغير المناخى ونقص التنوع البيولوجى الذى يهدد بكوابيس بحجم أكبر كثيرا. ما هو مطلوب ليس ببساطة تدوير للمخلفات ــ الأمر الذى يقوم به البعض بالفعل ــ ولكن إلغاء للمخلفات تماما وهو ما يتطلب واقعا اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا مختلفا كثيرا عما نعيش فيه حاليا، ويتطلب مساهمة فعالة فى الأبحاث والبيانات والابتكارات. يستلزم هذا التحدى الكبير لتجنب تلك الكوابيس المرعبة تحولا نحو اقتصاد دائرى لا ينتج مخلفات... ويقدر بعض الخبراء حجم الأنشطة الاقتصادية التى هى بحاجة للتحول للاقتصاد الدوار بحوالى 91% من إجمالى الأنشطة الاقتصادية الموجودة اليوم، ويمكن مقارنة التحول المطلوب لتلك النسبة الكبيرة التى يمكن تبسيطها إلى كل النشاط الاقتصادى بما حدث فى الثورة الصناعية. مما يتطلب تحولا على كل المستويات الدولية والإقليمية، ولكن أهمهم المحلى التى تقدر إحدى المنظمات المعنية باستدامة البيئة مساهمته بحوالى 70% وأتمنى أن تكون أحلامنا لهذا التحول المحلى وسيلة جادة لإلهامنا لمستقبل أكثر إنسانية وكرامة للجميع.