غداة الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى مع إيران المعروف باتفاق ٥+١، وما نتج عنه من إرباك وتوتر فى علاقات واشنطن مع حلفائها ومع روسيا الاتحادية والصين الشعبية، الأعضاء فى هذا الاتفاق، وما يحمله هذا الانسحاب من تداعيات خطيرة فى شرق أوسط يعيش على صفيح ساخن، وعشية المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية فى سنغافورة يوم ١٢ يونيو القادم، يبدو المشهد مليئا بالمقارنات والمفارقات.
أولا: كوريا الشمالية عضو فى النادى النووى فيما إيران تقف على عتبة الدخول إلى هذا النادى. الأمر الذى يعنى أن كوريا تملك ورقة ضمانة مطلقة ضد أى احتمال هجوم مباشر عليها، فيما الوضع الإيرانى مختلف لعدم امتلاك إيران لهذه القدرة.
ثانيا: تعيش كوريا الشمالية فى منطقة تتسم بأعلى درجات العسكرة مقارنة مع مناطق أخرى فى العالم، ولكنها تعيش فى نظام إقليمى «دولتى» طبيعى، فيما إيران تعيش فى منطقة تتسم بأعلى درجات الفوضى ووجود جميع أنواع الصراعات المتداخلة والمترابطة فيما بينها.
لا تملك كوريا الشمالية أوراق تأثير خارج ورقتها النووية الدفاعية فى النظام الإقليمى الذى يحيط بها، ومتنفسها الاستراتيجى الوحيد واعتمادها شبه الكلى هو على الصين الشعبية بدرجة أولى وعلى روسيا الاتحادية بدرجة ثانية.
مقابل ذلك، تمتلك إيران العديد من الأوراق توظفها فى الصراعات القائمة فى المنطقة، مما يخلق لها مزيدا من النفوذ ولكنه أيضا يجعلها فى وضع صدام مع قوى إقليمية وكذلك دولية موجودة فى المنطقة.
ثالثا: أن هنالك درسا أساسيا أمام كوريا الشمالية عشية المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية قوامه أن الولايات المتحدة تضع السقف عاليا وتتشدد بمطالبها، وهى إن لم تحقق ذلك، فهى غير مستعدة للمضى قدما نحو الاتفاق. انسحابها من الاتفاق مع إيران خير دليل على ما أشرنا إليه.
رابعا: الزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون يريد اللجوء إلى النموذج الصينى، بمعنى «أننى وقد أمنت استمرار النظام من خلال الورقة النووية، ورقة السلاح النووى، فإننى أريد الآن أن أنفتح على العالم من أجل التطور والتنمية الاقتصادية، والتى تبقى مقيدة حسب النموذج الصينى، ودون أى تداعيات على الاستقرار السياسى والنموذج السياسى القائم».
التوصل إلى اتفاق سلام مع كوريا الجنوبية وتطبيع العلاقات مع الشقيق الذى كان عدو الأمس، خطوة أساسية تغييرية فى اتجاه هذا المسار الذى يطمح إليه الزعيم الكورى الشمالى. لكن الأخير يدرك أيضا أن تطور العلاقات مع كوريا الجنوبية يخضع فى درجة كبيرة إلى طبيعة تطور العلاقات مع الولايات المتحدة، من علاقات قطيعة، إلى علاقات متوترة إلى بداية تطبيع فى العلاقات مع واشنطن.
خامسا: هنالك درس ماثل أمام الأعين فى كوريا الشمالية، وهو النموذج الليبى: عندما قبل الزعيم الليبى معمر القذافى عام ٢٠٠٣ بإيقاف برنامجه النووى وإنهائه كليا مقابل الحصول على اعتراف، وبالتالى ضمانات من الغرب، لم يحمه هذا الاعتراف ولا تلك الضمانات من عملية إسقاطه، بعد أقل من عقد من الزمن.
مثال آخر وهو أوكرانيا. أوكرانيا تخلت عن برنامجها النووى عام ١٩٩٤، وحصلت على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية وبريطانيا، ولكن ذلك لم يمنع من قيام روسيا باجتياح شرق أوكرانيا عام ٢٠١٤، ولم تفعل واشنطن أو لندن أى شىء لمنع حصول ذلك الأمر.
سادسا: أن البيان المشترك الذى صدر عن اجتماع زعيمى كوريا الشمالية والجنوبية والذى قرر وضع حد للحرب الكورية، وقيام شبه جزيرة كورية خالية كليا من الأسلحة النووية، عبر نزع كامل للعنصر النووى، قد يبقى كلاما عاما، ولكن عملية تطبيقه ستخضع لاعتبارات عديدة غير متوافرة كليا فى هذا الوقت.
ولا يمكن، كما يقول أكثر من طرف، أن تجرى مقايضة كبرى فى لحظة معينة فى القمة الأمريكية الكورية الشمالية القادمة، كأن تقول كوريا الشمالية «إننى مستعدة كليا للتخلى الكامل عن السلاح النووى ضمن فترة زمنية قصيرة جدا مقابل تطبيع تدريجى للعلاقات مع واشنطن».
دون شك، سيكون الوضع أكثر تعقيدا من ذلك، ولا يعتقد أحد أن كوريا الشمالية قد تتخلى عن ورقتها الأساسية بسهولة كاملة مقابل وعود أمريكية بالتطبيع.
***
أخيرا، صحيح أن كوريا الشمالية تملك سلاحا نوويا وتملك صواريخ قادرة أن تهدد عبر حملها للرءوس النووية الولايات المتحدة نفسها، ولكن من منظور أمريكى شامل، يبقى الخطر الكورى الشمالى أقل بكثير من مخاطر الدور الإيرانى، على الرغم من أن إيران ليست قوة نووية بعد. مرد ذلك أن كوريا الشمالية محاصرة، وأنها تعتمد كليا، كما أشرنا، على الصين الشعبية وروسيا اللتين يمكن أن تقيدا سلوكياتها وحركاتها، فيما إيران متواجدة بقوة، بشكل مباشر وعبر حلفائها، فى المنطقة مستفيدة من التوترات الحاصلة هنا وهناك والصراعات القائمة والممتدة على طول الشرق الأوسط. الأمر الذى يعنى أن إيران غير النووية تشكل خطرا أكبر على المصالح الحيوية الأمريكية فى الشرق الأوسط أكثر مما تشكله كوريا الشمالية النووية على المصالح الأمريكية فى شبه الجزيرة الكورية.
خلاصة الأمر، إذا قارنا موقع ونفوذ كل من القوتين فى مجالهما الإقليمى المباشر، فإن إيران تمتلك الكثير من الأوراق، مستفيدة مما ذكرناه من أوضاع تعيشها المنطقة، فيما كوريا الشمالية تمتلك ورقة واحدة وهى عملية الدفاع الأخير عن وجودها فيما لو تعرضت لهجوم مباشر ولكنها لا تملك أى قدرة للتأثير سياسيا فى المنطقة التى تضمها.
إن المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية القادمة التى قد تشهد صعودا وهبوطا، تبقى إمكانية نجاحها، إذا أظهرت واشنطن بعض المرونة فى ما يتعلق بالتخلص من العنصر النووى الكورى الشمالى، وهو الورقة الوحيدة لكوريا الشمالية فى هذه المفاوضات أسهل بكثير من التفاوض غير المباشر الحاصل بين واشنطن وأصدقائها من جهة وإيران وبعض حلفائها من جهة أخرى فى الشرق الأوسط. فجدول نقاط الصراع فى الشرق الأوسط أكثر حيوية وأهمية وتعقيدا ليتم التوصل إلى اتفاق سريع حولها ولا شىء يظهر فى الأفق حاليا، مقارنة مع جدول الصراع الأمريكى الكورى الشمالى.
وفيما يجرى الحديث فى واشنطن حول ضرورة تغيير النظام فى إيران، فإن عنوان المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية هو التالى: وعد بالازدهار مقابل التخلى عن أسلحة الدمار.