منذ بداية انتشار وباء الكوفيد ولدينا شعور دائم فى عالم الاستثمار بأننا نلهث وراء تفسيرات وتوقعات الأحداث العالمية وآثارها الاقتصادية. هذا الشعور سببه تسارع الأحداث وحجم ردود الأفعال عليها وهو ما جعل الاقتصاد العالمى يبدو كأنه بندول تم جذبه فراح يتأرجح بقوة. بداية من الكوفيد وآثاره الإنسانية المدمرة وتسببه فى إغلاقات كان من شأنها التأثير سلبا على معظم سلاسل التوريد ومازالت آثاره متبقية حتى اليوم. ثم ردود أفعال البنوك المركزية التى أطلقت أكبر حِزَم تيسيرات نقدية فى التاريخ وفضلا عن دخولها كعنصر فاعل فى بعض أسواق المال ربما للمرة الأولى فى تاريخها حيث إنها كانت دائما تركز على قصر تدخلها على استخدام الآليات المتاحة لها كمنظم للسوق فقط. تلا ذلك ردود أفعال حكومات الدول المتقدمة التى قامت بدورها بإطلاق أكبر حزم تحفيزية مالية منذ الحرب العالمية الثانية. وكان من آثار ذلك تسارع وتيرة التضخم العالمى الذى أخذ جرعة منشطة قاسية من جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وأجبر البنوك المركزية العالمية على رفع معدلات الفائدة بأسرع وتيرة خلال الأربعين عاما الماضية. والآن نقف فى لحظة تاريخية تلوح فيها بوادر الذكاء الاصطناعى الذى من شأنه أن ينقل معدلات الإنتاجية العالمية إلى مستوى جديد وفى نفس الوقت تشدد البنوك المركزية خاصة فى الدول المتقدمة من حدة حربها ضد التضخم. فأين نرى اتجاه الاقتصاد العالمى فى خلال الـ١٢ شهر القادمة؟
بداية، الحرب ضد التضخم مازالت فى أوجها. فى عالم الاستثمار نحاول دائما أن نجد التوقع شبه المؤكد ونبنى عليه أطروحة الاستثمار Investment Thesis التى نعتبرها حجر الزاوية لقرارات الاستثمار على المدى المتوسط. التحدى فى الفترة منذ ٢٠٢٠ كان يتمثل فى حاجتنا إلى مراجعة أطروحة الاستثمار بصفة دورية بسبب سرعة التغيرات. اليوم ولأول مرة منذ فترة طويلة نجد أن لدينا اتجاه واضح وصريح للبنوك المركزية وسأتحدث هنا عن الفيدرالى الأمريكى بوصفه الأهم. يستهدف الفيدرالى رفع معدل الفائدة الحقيقية بهدف إبطاء النشاط الاقتصادى لتقويض التضخم. الفائدة الحقيقية Real Interest Rate هى معدل الفائدة الاسمى Nominal Interest Rate مطروحا منه معدل التضخم Inflation. فمثلا إذا كان معدل التضخم ٥٪ ومعدل الفائدة ٦٪ فمعدل الفائدة الحقيقى هو ١٪. إذا انخفض التضخم فسيفعلون ذلك عن طريق إبقاء أسعار الفائدة فى مستواها المرتفع. إذا لم ينخفض التضخم فسيفعلون ذلك عن طريق رفع معدلات الفائدة عن معدلها الحالى. السؤال هنا: إذا كنا لا نعرف على وجه اليقين أين تتجه أسعار الفائدة الاسمية فى المدى القريب، فهل نستطيع الاستفادة من ثقتنا فى اتجاه أسعار الفائدة الحقيقية؟ الإجابة نعم، وفى الحقيقة عادة ما يكون اتجاه أسعار الفائدة الحقيقية أهم بالنسبة لأسعار الأصول من أسعار الفائدة الاسمية. فمثلا المعادن الثمينة مثل الذهب، لفت نظرى على وسائل التواصل الإجتماعى استخدام بعض الأشخاص كلمة «الاستثمار» فى الذهب. ولكن فى الحقيقة الذهب ليس استثمارا لأنه أصل لا يولد تدفقات نقدية وبالتالى فالعائد منه وهو فى حيازتك صفر والأمل أن تكون قيمته عند بيعه أعلى من قيمته وقت الشراء. نفس الشىء بالنسبة لفكرة «تسقيع» الأصول العقارية. وعندما يرتفع سعر الفائدة الفعلية فالضغط يكون أولا على أسعار المعادن النفيسة وذلك ببساطة لأن أى أصل ينتج تدفقات نقدية أعلى من معدل التضخم سيكون أكثر فائدة من الذهب. ويتسبب ارتفاع سعر الفائدة الحقيقية أيضا فى إعادة احتساب قيمة أغلب الأصول، حتى الأصول ذات التدفقات النقدية مثل الأسهم، فكلما ارتفع سعر الفائدة الحقيقية صار المستثمر أكثر تطلبا من حيث العائد الذى يتوقعه من الأسهم. وهذا العائد يرتفع إما بزيادة مكاسب الشركة صاحبة السهم أو انخفاض السعر الذى يدفعه المستثمر لشراء هذا السهم. فإذا كان الغرض المعلن للبنوك المركزية بقيادة الفيدرالى هو إبطاء الاقتصاد، أصبحت زيادة أرباح الشركات أصعب وبالتالى فهبوط أسعار أغلب الأسهم وحتى الكثير من السندات يصبح أمرا شبه حتميا. أما بعد هذه الحركة التصحيحية فالعالم سيبدأ النظر لفترة فد تكون شديدة الأهمية إذا كنا فعلا على مشارف فجر جديد للذكاء الاصطناعى وما يمثله من زيادة مطردة فى الإنتاجية.
أما على الصعيد المحلى فالضغط على العملة المحلية مستمر لعدة أسباب من ضمنها أن معدل الفائدة الحقيقية بالسالب. فإذا طرحنا معدل التضخم الأساسى المعلن من قبل البنك المركزى من معدل الفائدة الرسمى سنجد أن المعدل بالسالب، وبالتالى فالحافز للمستثمر الأجنبى على تغيير عملته الصعبة بالجنيه غير موجود. والحل للخروج من هذا الموقف أيضا هو إما هبوط معدل التضخم أو زيادة الفائدة أو ربما خليط من الاثنين. فإذا أضفنا لذلك عامل ارتفاع «توقعات التضخم» Inflation Expectations فسيكون لزاما على البنك المركزى فى لحظة ما أن يرفع أسعار الفائدة أعلى من أسعار التضخم بكثير حتى يعيد «ترسية» توقعات التضخم Anchoring. أما عن ماذا نعنى بتعبير «توقعات التضخم»، فهى إحساس المواطن والمستثمر أن التضخم تم فقدان السيطرة عليه مما يؤثر على جميع قراراته سواء الاستثمارية أو الشرائية والمعيشية. هى الحالة التى تحاول البنوك المركزية فى الدول المتقدمة كبح جماح التضخم قبل الدخول فيها لأن الخروج منها يكون صعب ومكلف وهو ما يجعلنا مطمئنين لتوقعاتنا بالنسبة لأهم مؤشر فى الـ١٢ شهرا القادمة وهو معدل الفائدة الحقيقى.