توفيق الحكيم وعودة الوعى! - رجائي عطية - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 4:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توفيق الحكيم وعودة الوعى!

نشر فى : الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 10:00 م

لا أعرف حقيقةً لماذا تباطأتُ كل هذه السنين عن قراءة «عودة الوعى» منذ صدوره فى أوائل سبعينيات القرن الماضى، مع أننى من عشاق توفيق الحكيم، المدمنين على قراءة كل أعماله.
ربما لأننى استنتجت آنذاك موضوعه، وربما لأنى قدّرت أننى لم أفقد الوعى حتى يعود إلىّ، فقد لحقت بالعهد الملكى وألممت بكثيرٍ مما كان يعيبه ويعيب الحياة السياسية بوجه عام، وعاصرت عن وعى حركة الضباط الأحرار التى انفجرت فى 23، 26 يوليو 1952، وتسمّت بعد ذلك بعدة مسميات حتى استقرت على مسمّى «الثورة »، وتابعتُ حركتها ونجاحاتها وإخفاقاتها منذ ذلك التاريخ، وكل ما جرى من اختلاجات بداخلها، وكل ما واجهته واتخذته لمغالبة عوامل النحر فى داخلها، وكيف تصدت للعدوان الثلاثى 1956، وكنتُ ممن لحقوا بمعسكرات الحرس الوطنى للتدريب على الرماية وأعمال القتال، عاصرتُ تلك الأحداث وكل ما كتب بعد ذلك عنها، معاصرة بصيرة واعية، حتى كان إقحام مصر فى حرب اليمن التى استهلكت الأرواح والممتلكات وأنهكت القوات المسلحة، ومهرجان مايو 1967 الذى تحول فى يونيو إلى كارثة النكسة، بينما ثلثا القوة القتالية للجيش المصرى بعيدة فى جبال ووديان اليمن، وكنتُ آنذاك ومنذ أول الستينيات ضابطًا عاملا بالقضاء العسكرى بالقوات المسلحة، مطلا على كل ما يجرى، عارفًا بمكامن الداء، وبالفارق الهائل بين انسحاب القوات المسلحة من الكماشة التى نصبت لها فى سيناء بالعدوان الثلاثى 1956، وبين انسحاب 1967 الذى أُغْفِل فيه الفريق أول عبدالمحسن كامل مرتجى قائد الجبهة، وصدر الأمر بالانسحاب من القاهرة بإشارة أقرب إلى نداء بالانسحاب ـ بلا خطة ـ وبأن تكون الأولوية للأفراد ثم الأسلحة ثم المعدات، وتجرعتُ وأنا بالقوات المسلحة مرارة النكسة، وما بُذل من جهودٍ هائلة لإعادة بناء القوات المسلحة مرورًا بمرحلة الصمود حتى مرحلة الردع، وانتهاءً بحرب 1973 التى حمل رايتها ومسئوليتها الرئيس أنور السادات، وتابعت كل ما بعدها، وقـرأت مذكرات جميع القـادة عن حروب 1956 و1967 و1973، انتهاءً بكتاب حافظ إسماعيل «أمن مصـر القومى فى عصر التحديات»، مثلما تابعت التزييف السياسى والإعلامى الذى أطلق مسميات لا تصـادق الواقع.
ربما قدرت ـ وما ذكرت بعضه مجرد عناوين لما أعرف حقائقه وخباياه ـ ربما قدرت أنه لا شىء بالكتاب يمكن أن يضيف إلى معلوماتى، مندهشًا فى الوقت ذاته من الحناجر التى تصايحت بالهجوم على توفيق الحكيم، الأمر الذى كشف لى أن عودة الوعى إلى توفيق الحكيم، لا تعنى عودة الوعى إلى الجميع، خاصة من تلبسوا بثوب وجدوا حياتهم واستمرارهم فى ارتداء لباسه!
الذى دعانى إلى قراءة الكتاب الذى أهملت فى قراءته سنينًا عددًا، أننى وجدته فى رفوف مكتبتى ضمن الطبعة الجديدة القشيبة التى أصدرتها دار الشروق بمقدمة الطبعة الأولى التى حملها ـ وحاز فضلها ـ المرحوم الأستاذ محمد المعلم، ومشفوعة بأهم ما نشر هجومًا ـ أو تهجمًا ـ على الأستاذ توفيق الحكيم وبعض ردوده عليه، وبالتوازى مع كتاب «عودة الوعى» كتاب ثانٍ حمل عنوان «وثائق فى طريق عودة الوعى» ـ وهى وثائق تَرُدُّ بذاتها على من تهجموا جورًا وافتئاتًا على الأستاذ توفيق الحكيم !
وازداد تعجبى ودهشتى حين سهرت مع الكتابين حتى قرأتهما بإمعان فى ليلة واحدة. عجبتُ من غضب الاعتراض على محاولة الإيقاظ من النوم بل من السبات العميق، ومن ترك الموضوع إلى مهاجمة توفيق الحكيم لماذا سكت من قبل، ونعت الساكتين سلفًا بأنهم كانوا أشباحًا خائفة وضعيفة لم تملك الشجاعة للاعتراض، مع أن هذه الحجة حجة لمن أفاقوا وتكلموا، فحواها أن ما كان ــ كان استبدادًا كمم الأفواه، وأجبرها ــ خوفًا ــ على التزام الصمت، أخذًا بمنطق من تعلم الحكمة من رأس الذئب الطائر، وكم من رءوس طارت أو طُيّرت!
لا أريد أن أنحى ما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم باسترجاع ما كتبته شخصيًّا عن نصر رمضان / أكتوبر 1973، وعن ماذا بقى من كل من عبدالناصر والسادات، وهو عنوان آثرته لتجنب تناول السلبيات، وإنما أريد أن نرى معًا أخطر وأهم وأصوب وأشجع ما كتبه توفيق الحكيم، مباشرةً وبلا إسقاط من خلال مسرحية أو من رواية، كما حدث فى السلطان الحائر، وسلطان الظلام، وشجرة الحكم، وبجماليون، وبنك القلق.
حديث توفيق الحكيم فى «عودة الوعى» حديث مباشر، صريح ومهذب، كان ولا يزال يستوجب نقاشًا ودراسةً وبحثًا وتحقيقًا، لا تهجمًا ولا مصادرةً ولا رفضًا لمجرد الرفض؟!
قدم الأستاذ توفيق الحكيم للطبعة الثانية التى صدرت للكتاب فى ذات سنة 1974 التى صدرت فيها الطبعة الأولى ــ بأنه منذ صدور تلك الطبعة؛ «غضب الناصريون فى مصر وخارجها، وهاجوا وماجوا كما لو كانت الناصرية دينًا مقدسًا لا ينبغى المساس به، وكما لو أن عبدالناصر فوق مستوى البشر، ليس لمخلوق أن يحاسبه على خطأ. و لو كان شخص جمال عبدالناصر هو المقصود لكان من واجبنا نتسامح، ولكنت ــ والكلام لتوفيق الحكيم ــ أول الطالبين بالترحم على ذكراه وعدم إزعاجه فى مثواه... ولكن عبدالناصر ليس شخصًا واسمًا.. إنه فترة حكم طويل دمغ مصر كلها بطابع معين. ولم يزل هذا الطابع يدمغ لحم مصر كأنه الوشم الذى يطمس معالم ما تحته. وتمر الأيام وتطلع الأجيال ولا تعرف ما تحت هذا الوشم، ولا ما كان قبله ولا ما سيكون بعده. إذن على مصر أن تتوقف عن النمو السياسى والفكرى والاجتماعى، لأنها لا تعرف ولا تريد أن تكشف حقائق هذه الفترة من الحكم الفردى المطلق. كان لا بد إذن من فتح ملف ثورة 1952 بأكملها ورؤية الحقائق إذا أردنا لمصر أن تنهض على قدميها وتسير بنفسها على طريق التقدم. وليس من الضرورى بعد فتح الملف أن نحاكم ونعاقب. هذا ليس بالهدف المنتج. إن أهم هدف من «فتـح الملف» هو فتح العيون على الأخطاء والكوارث حتى نتجنبها ونحن نبنى مصر من جديد، وحتى لا نسمح لكائنٍ من كان بتكرارها. ثم فتح الأذهان على ما قيل إنه مكاسب وإنجازات لنفحص قيمتها الحقيقية ونتائجها الفعلية، لأن هذه الفترة المملوءة بالأكاذيب اختلطت فيها الشعارات الفارغة الرنانة بما قد يكون نتج حقًّا من منافع.
«ولكن الناصرية، أى الراكبين على حصان عبدالناصر، لسبب أو لآخر، يفزعون من مجرد ذكر الملف وفتحه.. لماذا؟ أترك الجواب لفطنة من يحب الحقيقة ويريد لبلاده أن تبنى على الصدق، وليس له غرض أو مرض. ولن أكف عن المطالبة بفتح الملفات وكشف الحقائق مهما يسخط الساخطون.
«ولقد رأيت أن أطلع قارئ هذه الطبعة على نماذج من رد الفعل (فى ختام الكتاب) مشفوعًا بردى، توضيحًا للمواقف، راجيًا من كل مواطن أن يضع مصلحة وطنه فوق كل اعتبار».
وكان الأستاذ توفيق الحكيم قد بدأ الطبعة الأولى للكتاب بكلمة، أبدى فيه أنه بعد انقضاء عشرين عامًا على ثورة 1952، جعل يسترجع ما وعته ذاكرته من صورة الثورة وصلته بها، ويحاسب نفسه من خلال محاسبته لها. وأن هذه الصفحات هى آراؤه وشهادته أمام ضميره، ولا يحب أن تؤخذ على أنها موقف سياسى أو حكم نهائى، بل على العكس هو يطالب بالبحث المنصف والتحقيق الدقيق والكشف عن الحقيقة. إن المهمة الكبرى لحامل القلم والفكر هى الكشف عن وجه الحقيقة.
لا شك أن عبدالناصر يُحَب، وقد أحَبه كثيرون.
وشخصيًّا أنا أحبه، ولكنى لا أعبده!

التعليقات