الله يجيرنا من ساعة الغفلة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:10 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الله يجيرنا من ساعة الغفلة

نشر فى : الأربعاء 4 أكتوبر 2017 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 أكتوبر 2017 - 10:25 م
كثيرا ما كنت أسمع عبارة «الله يجيرنا من ساعة الغفلة» دون أن أعى فعليا معنى أن نسأل الله أن يجنبنا موتا مفاجئا أو حتى مصيبة غير متوقعة. كان يردد كبار السن من حولى تلك الدعوة فأتخيل أحدنا وقد حضر نفسه لساعة الغفلة، ثم أتساءل مع نفسى ما معنى تحضير كهذا. لكننى فى الأسبوع الماضى تأثرت كثيرا بخبر موت شخص لم أكن أعرفه أصلا، إنما قرأت قصته، أو بالأحرى قصة ساعاته الأخيرة على شبكات التواصل الاجتماعى. هو رجل سورى أجبرته الظروف السياسية على العيش فى القاهرة، وقد أطلق نداء إلى أصدقائه الافتراضيين يعلمهم فيه أنه يشعر بوعكة صحية شديدة وأنه سوف يتوجه إلى المشفى. تلى ذلك تحديث على صفحته الخاصة يبلغ فيها متابعيه أنه يبحث عن سيارة إسعاف، ثم ظهر خبر موته على الصفحة ذاتها، أى صفحته وقد كتبها صديق له.

***

تأثرت كثيرا برحيله دون أن أعرفه، إذ تخيلت شخصا وحيدا فى شقته وشبح الموت يدخل عليه مكشرا عن أنيابه. لا بد أن الرجل قد اضطرب وحرك يديه فى محاولة منه أن يثنى الشبح عن مشروعه، إلا أن الأخير فض غطاء أسود يحمله معه فى رحلاته لحصد الأرواح وتقدم نحو الرجل. لحظات وبدأ الشبح بفرد الغطاء على قدمى الرجل الذى أرسل وقتها أول استغاثة. تماسك قليلا وخرج من منزله إلا أن الشبح لحق به عند مدخل العمارة محاولا منعه من النجاة. ظل الرجلان يتفاوضان لكن الشبح استمر بتغطية الرجل باللحاف الأسود حتى لفه به تماما فى المشفى لحظة صعود الروح.

***

هل من موت أكثر قسوة من الرحيل وحيدا، فى مدينة غريبة حتى لو كان قد اتخذها بديلا لمدينته؟ هل من لحظات أكثر رعبا من تلك التى يتصارع فيها أحدهم مع شبح الموت؟ أتساءل إن كان سيكون رحيل الرجل أقل قسوة لو رحل وهو محاط بأصدقائه أو بوجوه مألوفة؟

***
كيف يحضر المرء للحظة الرحيل؟ قرأت الكثير عن أشخاص عرفوا أنهم مصابون بمرض لن يشفوا منه، فجهزوا أنفسهم بمعنى أنهم ربما راجعوا أوراقهم القانونية بغية تجنيب عائلاتهم عناء ترتيبها من بعدهم. أو قد يكون التحضير للرحلة الأخيرة عبارة عن تمضية أوقات ممتعة بصحبة أشخاص يحبونهم كنوع من وداعهم بشكل أقل حزنا قد ينتج عنه مزيد من الذكريات الجميلة معهم.

طبعا لا يوجد رحيل سعيد، وأتوقع، بما أننى لم أرحل بعد فلا يمكننى أن أجزم، أن من يعرف أنه ذاهب يحمل فى كل نفس يأخذه ثقل توقع شبح الموت فى أى لحظة. إنما صورة رجل وحيد فى شقة ربما كانت مظلمة لم تفارقنى هذا الأسبوع.

***

أعترف أننى كل فترة أراجع كل محتويات مكتبى والأرفف الخاصة بى فى المنزل، كما أتأكد بأننى لا أدين لأحد بشىء. أعترف أننى أفكر أحيانا بموضوع الرحيل المفاجئ وأتذكر وحدى إن كان كل شىء فى مكانه فى حال رحلت، فلا يضطر من حولى أن يحتاروا فى محتوى بعض الملفات أو معنى بعض الملاحظات التى أتركها لنفسى طول الوقت فى أماكن غريبة.

***

لقد رحل عنى عدد من الأشخاص الذين أحببتهم فى السنوات الأخيرة، وفى كل مرة أسمع قصصا عن أمور عملية يتوجب على عائلة من رحل أن تتعامل معها. أسمعهم يتكلمون فى تفاصيل لا شك أنها مهمة، وأتساءل عن مدى متابعة من رحل لها من بعيد. هل يقف معنا فى الغرفة فيهز رأسه موافقا على الترتيبات؟ هل يفرك يديه بحركته المعهودة وهو يفكر فيما نقول؟ هل تبتسم الراحلة بمكر وهى ترى زوجات أولادها متحفزات عند اقتسام ممتلكاتها؟

***
لم تشبع قراءات ما بعد الموت فضول من يتساءل عن ذلك العالم، وقد زاد على ذلك الآن صفحات التواصل الاجتماعى التى تذكر بمن رحلوا فيظهرون أمامنا يوم عيد ميلادهم مثلا وترانا نكتب لهم تمنيات أن يكونوا بخير «هناك»... هم رحلوا لكن أرقام هواتفهم ما زالت مخزنة عندى، حتى أننى أحيانا حين أقلب فى لائحة الأرقام أتفاجأ من جديد بأن فلانا لم يعد معنا، وكأننى لم أحضر مجلس عزائه أو لم أواسى أسرته فى وقتها. 

***

ربما أننى لم أنضج بعد بشكل يجعلنى أتقبل رحيل من أحب. يقال فى علم النفس إن من فقد عزيزا عليه أن يمر بسبع مراحل منها الصدمة والإنكار، يليها الألم والشعور بالذنب ثم الغضب فالاكتئاب، قبل أن يبدأ الإنسان بالتماسك ليصل إلى مرحلة القبول بالواقع. فى رحلتى مع الفقدان، أظن أننى أذهب مباشرة إلى الألم والشعور بالذنب حيث أتوقف، أو أظل عالقة، دون المرور بالمراحل كما نص عليها علماء النفس، لذا ففى تعاملى مع الفقدان شىء منقوص، جزئية لم تنضج فلا تسمح لى بالتعامل مع الرحيل.

***
على كل، ففى نفس أسبوع موت الرجل الوحيد، توفى أيضا صديق يعيش فى الغربة هو الآخر، إلا أنه، ورغم رحيله المفاجئ والفاجع لعائلته، إنما رحل محاطا بمن يحب من الأهل والأصدقاء. يبدو أنه فى الموت أيضا بعض الناس محظوظين بالحب، لكن فى جميع الأحوال، «الله يجيرنا من ساعة الغفلة».
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات