بعد التقرير الأخير الصادر فى شهر أغسطس الماضى عن اللجنة الدولية المتعددة للتغير المناخى، أصبح الوضع لا يحتمل التأويل فى أن الوقت المتاح أمامنا لإنقاذ كوكبنا والكائنات التى تعيش فيه، ونحن منها، ليس متسعا وأن النافذة المتاحة لنا لاتخاذ إجراءات وقرارات حاسمة هى ربما لا تزيد على هذا العقد الذى نعيشه الآن. وأن المطلوب ليس فقط وقف التدهور فى الطبيعة، ولكن الأهم استعادة الطبيعة لازدهارها أو ما يطلقون عليه الطبيعة الموجبة. وفى قلب تلك العملية تكون استعادة الدورات الصحية للماء من خلال تقليل الملوثات، وأيضا استعادة جودة وتنوع التربة من خلال تقليل الأسمدة والملوثات واستبدال الكائنات والنباتات غير الأصلية فى المكان بأخرى أصلية، وأخيرا بالتقليل بصورة حاسمة من الملوثات فى الهواء ليس فقط من تلك الخاصة بالغازات التى تنتج الاحتباس الحرارى ولكن الغازات الأخرى الضارة بصحة الإنسان والكائنات الطبيعية مثل أكاسيد الكبريت المستخدمة فى وقود السولار فى مصر مثلا، والتى تعد مصر من أكثر دول العالم تلوثا به.
ولأن إيقاف التدهور فى الجوانب المختلفة فى الطبيعة ودعم تعافى نشط لها ولمكوناتها ضرورة كبرى، فإنه من المنطقى أن تكون الحلول المقترحة لما نواجهة من تحديات مبنية على ما يمكن أن نتعلمه من الطبيعة، كما أنها تسعى بجدية لتضمين الكائنات الطبيعية المختلفة فى أغلب المقترحات لمعالجة مشاكلنا. ومن هنا ظهرت أهمية ما يطلقون عليه الحلول المرتكز على الطبيعة.
ولكن هل يمكننا تحديد أحد الأماكن لكى يكون محورا أساسيا تتم فيه المشروعات الصغرى والتجارب التى تحاول معالجة المشاكل التى تواجه التدفق الطبيعى للهواء والماء والتربة؟، وهل يمكننا معالجة الصرف الصحى المنزلى بصورة توفر حلا ذا كفاءة كبيرة وتقلل الملوثات المتسربة للمياه الجوفية والمجارى المائية السطحية وفى نفس الوقت تستخدم الكائنات الطبيعية كالنباتات بالإضافة لفوائد أخرى؟
•••
قمنا أنا وزميلى الدكتور أحمد العدوى بتصميم أولى لبديل محلى يطبق فكرة تم تنفيذها فى بعض البلدان المتقدمة حديثا، وقمنا أيضا بدراسة الأبعاد الاقتصادية لها. وبالرغم من محاولاتنا تمويل مشروع أولى لاختبار كفاءة النظام المقترح إلا أننا لم نوفق بعد. كما أعرف من قام بتجربة مشابهة وربما أكثر كفاءة وأتطلع لتنفيذها قريبا. وينتظر من هذا النظام فى حالة نجاحه ونشره فى معظم بيوت القرية تقليل أو منع تلوث المياه الجوفية وبالتالى المساهمة فى تخفيض منسوبها تدريجيا، وهى خطوة مهمة فى تصحيح دورة المياه فى القرية، ولكنه أيضا يعد بتوفير أكثر من خمسين بالمائة من الماء المستخدم منزليا مما يتيح فى حالة اختبار نجاحه وتعميمه عدم الحاجة لإنشاء محطات تحلية جديدة، وأيضا إتاحة جزء من الماء المتوفر لزيادة نصيب الفرد من المياه النظيفة وهو استثمار مهم فى الصحة العامة كما أنه أيضا يتيح التركيز على الاستثمار فى تحسين نوعية مياه الشرب. بالإضافة إلى استخدام جزء من المياه المتوافرة فى الزراعة فوق سطح أو أمام المنزل مما يساهم فى العزل الحرارى بالإضافة لتوفير الطعام. وسينتج من تلك المعالجة الإيكولوجية التى تستخدم نباتات مثل البردى وغيره قيمة أخرى متمثلة فى منتجات ثانوية وبقايا عضوية يمكن استخدامها كسماد. ونعتقد أن هذا مجرد خطوة أولى باتجاه المعالجة غير المركزية للمياه والتى نحتاج لبذل مزيد من الجهد والأبحاث لتحسين كفاءتها واقتصادياتها على المدى المتوسط.
•••
وهناك مجالات أخرى لتحسين منظومة المياه المحلية منها معالجة مياه المصرف بالنباتات الطافية، وهى مستندة لتجربة لأحد الأساتذة الكبار فى معهد المياه التابع لوزارة الرى. كما أننا بحاجة لتخصيص أماكن صغيرة لتحويل المخلفات العضوية وخلافه إلى موارد لها قيمة تسهم فى تحسين جودة التربة المحلية. وأيضا نحتاج لزراعة نباتات وأشجار أصلية وسوف يستند ذلك على أبحاث قائمة فى مركز بحوث الصحراء وأكاديمية البحث العلمى وهو ما يساهم ليس فقط فى تحسين الهواء ولكن فى الحفاظ على المياه وجودتها ودعم التنوع الطبيعى فى المكان. ويمكن كما اقترح أعضاء إحدى الفرق العاملة معى فى الربيع الماضى استخدام المصرف الرئيسى بالقرية وهو يقع بين القرية القديمة والامتدادات الأحدث لها وأيضا يرتبط بمتحف ميت رهينة ويقترب من عدة مناطق للحفريات كمحور لعمليات الاستعادة الأولية المقترحة. وهو بذلك يوفر مكانا يخلق الأمل الحقيقى بإمكانية التحول من هذا الوضع المتدهور والملىء بالمشاكل إلى آخر يمكن من خلاله للسكان أن يتنفسوا هواء أنقى ويشربوا مياها أفضل ويأكلوا طعاما أكثر صحة.
للباحثين فى مناحى المياه المختلفة دور مهم للغاية فى التعامل مع التحديات التى تواجهنا، وخاصة الشباب منهم، لأن ما هو مطلوب هو الكثير من العمل والإبداع لإيجاد حلول مبتكرة ومستدامة لحل العديد من الجوانب المتداخلة فى تحدى إدارة المياه واستعادة تدفقها الطبيعى بأقل قدر من الإعاقة. ولدعمهم يلزم توفير ليس فقط أموالا للأبحاث والتجارب ولكن دعما وتشجيعا واحتفاء بالإنجازات الحقيقية. ويجب أيضا عدم حجب المعلومات عنهم وإتاحة مناخ من الحرية والاستقلالية الأكاديمية التى تسمح بذلك والتى بدونها هاجر وسيهاجر الكثير منهم. ولكن هناك أيضا هؤلاء الداعمون المحليون لتوفير مياه نظيفة للجميع، وقد رأينا فى ميت رهينة من تبرع لعمل بئر مياه وقام بمعالجتها وتوفيرها للمواطنين والمواطنات للمساعدة فى سد فجوة الماء. وهناك أيضا ربما من المسئولين عن الرى والصرف والذين يستطيعون بذكائهم وحسهم المسئول تغيير الوضع الراهن للأحسن وخاصة بالتعاون مع الباحثين.