الوضع الاقتصادى المصرى: ما يفتقده النموذج التنموى - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الوضع الاقتصادى المصرى: ما يفتقده النموذج التنموى

نشر فى : السبت 4 نوفمبر 2017 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 4 نوفمبر 2017 - 8:25 م
بكل تأكيد ليس للتنمية معنى وحيد ولا طريق حصرى، لكن العلوم الاجتماعية التى تتقاطع فيها مناهج الاقتصاد والسياسة وفرت تراكمًا بحثيًا كافيًا للحكم على تجارب التنمية فى دول العالم المختلفة، موفرة مجموعة من التوصيات العلمية والعملية من أجل فرص أفضل لنجاح الدول التى لم تنخرط بعد فى عملية التنمية حتى لا تتكرر الأخطاء الشائعة التى ارتكبت من قبل، هذا لمن يسمع ويهتم ويقدر العلم بالطبع!.
فى مصر، خاضت مصر تجارب مختلفة للتنمية، كان أكثرها جدية فى تقديرى هى التجربة الناصرية والتى اعتمدت على التأميم والتصنيع وزيادة الإنفاق العام على التعليم والصحة والبنية التحتية مدعمة ذلك بمشروع سياسى عروبى تمكن من تحقيق نجاحات متعددة داخليا وإقليميا، كما جعل مصر قوة إقليمية حقيقية لاقت اهتماما متزايدا من دوائر صنع القرار الأبرز عالميا وقتها، أى الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية، ورغم الخلافات المتزايدة بين الأخيرة وبين النظام السياسى المصرى إلا أن كل الوثائق الأمريكية التى تؤرخ لتلك الفترة تشير إلى حذر الولايات المتحدة واهتمامها المتزايد فى الوقت نفسه بالملف المصرى. القيود على النموذج التنموى تزايدت من ناحية بسبب صراع السلطة داخليًا فى ظل غياب أى محاولة إصلاحية للنظام السلطوى من ناحية، وبسبب استنزاف مصر إقليميا فى ملفات عدة انتهت بالهزيمة العسكرية فى ١٩٦٧ من ناحية أخرى.
مشروعا السادات ومبارك كانا أكثر محدودية من النموذج الناصرى حيث اعتمدا على نسخة مشوهة من الليبرالية الاقتصادية، بحيث احتفظت المؤسسات والتنظيمات السياسية بالطابع الاشتراكى السلطوى بينما حاول النظام اعتماد سياسة السوق فانتهت هذه النسخة بتشوهات متعددة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بل وثقافيا؛ حيث رأسمالية المحاسيب المستندة إلى احتكار فئات محدودة من المجتمع إدارة الموارد وهو الأمر الذى حمّل مصر الكثير من الأعباء المتراكمة التى ندفع الكثير من أثمانها إلى الآن!.
لم تتمكن ثورة يناير من طرح أى مشروع متماسك فى ظل الاستقطابات المتزايدة بين من عبر عنها وانتهت بهزيمة شعاراتها الطموحة فى يونيو/ يوليو ٢٠١٣! منذ ذلك التحول الأخير تنتهج مصر نسخة تنموية محدودة تعتمد على التنمية العقارية والمشروعات العملاقة وتدعيم البنية التحتية من شبكات وطرق نقل ومواصلات وتكنولوجيا اتصالات، ورغم أن عناصر التنمية المصرية فى نسختها الحالية تبدو رنانة لكن أثرها الكلى يظل محدودًا للغاية، فمن ناحية، نسخة التنمية العقارية هى نسخة قشرية من التنمية وخصوصا فى الحالة المصرية؛ حيث الزيادة السكانية المتزايدة الضاغطة على الموارد مع غياب العوائد النفطية، مع قلة العوائد من المشروعات العملاقة والتى أثبتت التجربة العملية محدودية تأثيرها على الأداء الكلى للاقتصاد المصرى!.
***
مشكلة النسخة الحالية من الخطة التنموية المصرية أنها تفتقد إلى ثلاثة عناصر جوهرية للتنمية، فهى تفتقد للتنمية السياسية، والتنمية البشرية، وأخيرا للتنمية المستدامة. أما عن التنمية السياسية فهى محور رئيسى من محاور التنمية فى المجتمعات الحديثة، ولا تتوقف هذه العملية على مجرد السماح بالتعددية السياسية الشكلية ولكنها تعنى تداولا سياسيا حقيقيا للسلطة من خلال ثلاثة محاور، المحور الأول هو توفير ضمانات النزاهة والحياد من قبل أجهزة الدولة فى العمليات الانتخابية والتى تطول بدورها المحليات والتمثيل النيابى والمنافسة على رئاسة الدولة، المحور الثانى متعلق بعملية الرقابة والتوازن بين مؤسسات صنع القرار وما يعنيه ذلك من ضمان استقلالية المؤسسات القضائية والتشريعية عن هيمنة السلطة التنفيذية، بينما يتعلق المحور الثالث والأخير بعملية التوازن بين المؤسسات السياسية المدنية من ناحية وبين المؤسسات الأمنية والعسكرية من ناحية أخرى.
أما عن التنمية البشرية فهى تعنى ببساطة إعادة النظر فى فلسفة توزيع الموارد لتشمل تخصيص أكبر للتعليم والصحة وبرامج الضمان والتكافل الاجتماعى. بحيث يتم تخصيص الموارد إلى التعليم بشقيه الفنى والأكاديمى وإلى توفير برامج دعم صحى لكل الفئات المجتمعية بحسب الدخول مع تطوير كامل للقطاع الصحى وما يشمله ذلك من ثورة إنشائية وتكنولوجية فى مجال الخدمات الطبية ولا سيما استثمار الدولة فى بناء المزيد من المستشفيات والمراكز الطبية المؤهلة بالمعدات الطبية الحديثة لاستقبال المرضى من جميع الطبقات مع تغيير الأوضاع الاجتماعية غير العادلة للأطباء وما يرتبط به ذلك من تطوير مجالات البحث العلمى فى المجالات الطبية والدوائية.
أما عن التنمية الشاملة، فهى تعنى رؤية أوسع وأعم للتنمية التى تراعى عدم استنزاف الموارد وتعطى عناية كافية للتوازن البيئى مع تطوير طاقات الشباب الإبداعية ودعم برامج السلام والمصالحة المجتمعية وبناء عقد اجتماعى جديد بين الدولة والمجتمع، التنمية الشاملة هى فى الواقع عملية شاملة لعلاج مواطن النقص فى المجتمع وهو ما يعنى أنها تشمل كل المعطيات السابقة ولا سيما السياسى منها!.
***
بالعودة إلى النسخة الحالية من التنمية سنجد أنها تفتقد لمعظم العناصر سالفة الذكر! فهى أولا لا تستند إلى عملية إصلاح سياسى حقيقى، مجرد مؤتمرات شكلية لا ينتج عنها أى تغيير مؤسسى يذكر. لا رقابة ولا توازن بين السلطات، كما أن عملية التمثيل النيابى تغيب عنها أبسط المهام التشريعية والنيابية، ولا حاجة للتذكير بوضع الانتخابات كآلية لتداول السلطة والأسئلة الجدية عن نزاهتها. كما أن موضوع العلاقات المدنية الأمنية ما زال غائبًا عن أجندة صانع القرار رغم أهميته القصوى لمصر وللمنطقة العربية بأسرها.
وبينما تبدى الدولة بعض الجدية بخصوص برامج الضمان والتكافل الاجتماعى، فإنها ما زالت لا تأخذ التعليم بشقيه الفنى والأكاديمى على محمل الجد، ولا حاجة للحديث عن الرعاية الصحية! ونحن هنا لا نتحدث عن وزير يتحدث بلباقة ولا عن آخر يقوم بزيارات مفاجئة للمستشفيات، ولكننا نتحدث عن التزام الدولة متمثلة فى رأسها بإعادة تخصيص الموارد مما يسمى بالمشروعات العملاقة والمشاريع الكبرى إلى البنية التحتية البشرية (تعليم وصحة)، وهى أمور تتخطى قدرات الوزراء الحاليين والحكومة كلها وتتعلق إما بتحول سلطوى تشاركى يلتزم فيه صانع القرار بأجندة تعليمية وصحية واضحة المعالم، أو بتحول ديموقراطى كامل تلعب فيه المؤسسات التمثيلية والرقابية هذا الدور، وكلا التحولان يغيبان عن المشهد المصرى حتى اللحظة. 
أما عن التنمية الشاملة فهى أيضا غائبة حتى الآن عن أعين صانع القرار السياسى. ورغم الدور المتعاظم لوزارة البيئة وجهاز شئون البيئة فى تسعينيات القرن الماضى، ورغم التجربة الواعدة ــ رغم قصرها ــ لوزارة التطوير الحضارى والعشوائيات ووزيرتها السابقة المتميزة الدكتورة ليلى إسكندر، إلا أن الملف قد تراجع تماما فى سلم أولويات الدولة مع تراجع اهتمام الأخيرة بالملف البيئى، فضلا عن إقالة الدكتورة إسكندر وإلغاء وزارة التطوير الحضارى برمتها!.
بعيدا عن أى موقف سياسى مسبق أو مزايدة سياسية غير حاضرة، لكن أقولها بما أدعيه بضمير علمى ووطنى، نحن بلا شك بعيد تماما عن أى نسخة حقيقة لتنمية نتمناها ونستحقها بشدة! والحل يبدأ من حاجتنا الفعلية للحوار، ولكنه حوار وطنى داخلى متكافئ يدور حول أجندة سياسية مغايرة تماما للمتبعة حاليا، وهو حوار لا يجب أن يكون قاصرا على مؤتمرات تعقد هنا أو هناك، كذا لا يشترط أن يكون قاصرا على حضور رئيس الجمهورية توجيها أو رعاية، ولكنه يرتبط بحوار بين مؤسسات الدولة من ناحية وبين المجتمع بأطيافه المتنوعة ممثلا فى نقاباته وأحزابه وإعلامه ومثقفيه حول كل القضايا سالفة الذكر وفى القلب منها عملية الإصلاح السياسى التى هى حجر الأساس لكل ما سبق.
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر