يحمل الشتاء بين غيومه رائحة مدفأة وحطب أكلته النار فى الليل فاستيقظ أهل البيت على بقايا دفء سرعان ما يبدده برد الصباح. تحمل سماء الصباح الشتوى ذكرى سنوات من طفولة تأبى أن تختفى تحت تجاعيد بدأت تتجمع حول العيون. يأتى ضباب الصباح الباكر بمطر كان يغمر الشارع الذى تمر منه حافلة المدرسة، حين كتب التلاميذ أسماءهم بأصابعهم على شبابيك الحافلة.
***
اليوم، بدأت المدينة عدها التنازلى قبل إسدال غلقها على هذه السنة. تلبدت السماء بغيوم تحمل الخير وتحمل أيضا فى كل قطرة مطر قصة، أم ترانى حصدت عددا من السنوات بات يخولنى أن أستبدل كل قطرة بقصة؟ مع دخول السنة فى شهرها الأخير أدخل فى دفتر حى من الذكريات جلها من سنوات طفولتى الأولى، للشتاء قدرة عجيبة على خلط أوراق الزمن فأرى نفسى فى عمر ابنتى الطفلة وأضع وجهى مكان وجه أمى أيضا خلف شباك البيت تودعنى بإيماءة من رأسها وحركة من يدها، وأنا فى حافلة المدرسة أكتب اسمى على شباك غلفه ضباب الصباح.
***
فى الشتاء يظهر كل الأحباء، خصوصا من رحل منهم. تعود أصواتهم إلى الواجهة فأسمع قواعد الشتاء الأربعين: البسى قميص الفانيلا تحت الثياب، لا تدوسى فى تجمع الماء بعد المطر، اشربى عصير الليمون مع العسل، لا تقفى تحت المطر، لا تخرجى من البيت قبل أن ينشف شعرك، وما إلى ذلك من إرشادات سمعتها منذ عامى الأول، أو على الأقل منذ بدأت باستيعاب أن ثمة طبقة معينة يأخذها صوت جدتى وأمى والآن يأخذها صوتى حين تخرج من الفم تلك التعليمات الموسمية. فى الشتاء تجتاح الذاكرة صور لا أعلم إن كانت خاصتى أم أننى أنقلها عن آخرين وقصصهم عن شتاءاتهم وطفولاتهم.
***
شتاء للشجن، شجن فى الشتاء، ألعب بالكلمات وأتساءل عن ارتباط الشتاء بذاكرة حسية فيها الكثير من الروائح، رائحة المازوت الذى يغذى مدفأة قديمة، ورائحة قشر البرتقال الذى تضعه جدتى فوقها فيحترق وتملأ زيوته المكان، رائحة الشوربة التى تأتينى من المطبخ، رائحة الأرض بعد المطر. الروائح فى الشتاء تهز أغصانا اصفرت أوراقها فتتساقط فوقى مع أول هبة للرياح. فى كل ورقة شجر أرى صورة لكعكة عيد ميلاد وطفلة تطفئ شمعة، ثم أرى وجوها تبتسم وهى تنظر باتجاه الكاميرا. الكعكة عليها الكثير من الكريمة البيضاء الخفيفة والشموع تترك رائحة فى الغرفة بعد أن تطفئها الطفلة، أما الأفواه فهى تطلب من صاحبة البيت وصفة الكعكة وتتمنى عاما سعيدا للطفلة وللعائلة.
***
أظن أن لحظة التقاط الصور لا يتخيل أحد ممن فيها أن يوما سيأتى عليهم ليجدوا أنفسهم متقدمين فى العمر، فقدوا بعض من كان معهم فى المناسبة السعيدة، أما الطفلة فهى الآن أُمٌ تخبز الكعك هى الأخرى وتضع الكثير من الكريمة البيضاء تشبها بما كانت تزرع اصبعها فيه فى صغرها ثم تلعقها. ها هى ابنتها تدخل اصبعها الصغير أيضا فى الكعكة وتلعقها فتبتسم الأم ولا تنهرها. يخلد أحدهم تلك اللحظة أيضا فى صورة لكن الصورة تختفى فى جهاز الهاتف الذكى. ليس ذكيا أى جهاز يحتفظ بصور دون أن يسمح لها بأن ترى الضوء ودون أن تبهت ألوانها مع مرور الوقت.
***
وهكذا يتحول صباح يفترض أنه عادى وسط أسبوع غير استثنائى إلى احتفال مثقل بحنين يرمينى بين وجوه وأصوات وروائح حملتها أول غيمة غيثاء لتنهمر ذكريات مع المطر فتحد من الرؤية. أنظر إلى سماء الشتاء وأرسل إشارة إلى أحباء ذهبوا، ثم أنظر من حولى وأرسل إشارة إلى من هم ما زالوا موجودين، ابقوا هنا لنعيش عشرات مواسم من شتاء معا، لا تتحولوا إلى قطرات من المطر ينهمر مع دموعى إن رحلتم. أريدكم حولى شتاء تلو الآخر فنكبر معا ولا نحزن على من تركونا.
***
أحجار المدينة القديمة خير رفيق لسماء الشتاء وغيومها، أحجار تشهد على قصص المدينة ووشوشات أهلها. من هنا مر عاشقان بين الحارات ثم اختبآ من المطر عند مدخل حانوت البهارات. من هناك وقف بائع العصير ينتظر أن تهدأ الدنيا من حوله فيعود الزبائن، وإلا فمن سيشرب كل هذا الرمان المعصور؟ يوم شتوى واحد فقط كفيل بأن يجعل مدينة بأكملها تبوح بالحب، هكذا دون مقدمات، لا يعرف أحدنا متى سيرحل عن المدينة وعن الحياة كلها، ويعود على شكل قطرات تنهمر من السماء على رأس الحبيب: هل يعرف الشاب أن حبة المطر تلك هى حبيبته التى ذهبت؟ هل تعرف الحفيدة أن ثمة قواعد للشتاء تحملها قطرة المطر هذه كرسالة من الجدة فى السماء؟
***
سماء يوم شتوى وغيوم وقطرات المطر هى دفاتر ذكريات بأكملها وصفحات من كلمات الحب يختلط حبرها بالمطر فيلون أصابعى ولا يذهب حتى حين أفركها. للشتاء شجن خاص يقتحم حياتى كل سنة فيرمينى من الغيمة إلى الأرض ولا أنكسر، إذ تتلقفنى الذكريات وتساعدنى بلطف على الوقوف على قدمى.
كاتبة سورية