جنوب السودان وانهيار مفهوم الوطن - جيهان العلايلي - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 7:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جنوب السودان وانهيار مفهوم الوطن

نشر فى : الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:20 ص

حذر مؤتمر القمة لدول الاتحاد الإفريقى الذى انتهى قبل ايام فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا من الأوضاع الحرجة فى جمهوريتى إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وانعكاساتها على السلم والأمن فى شرق القارة اذا لم يتم إيجاد حلول عاجلة للأزمات فى الدولتين.

وقد رحبت القمة باتفاق وقف الاعمال العدائية والاتفاق بشأن المحتجزين بين (1) حكومة جنوب السودان والحركة: الجيشى الشعبى لتحرير السودان (جناح الرئيس سلفا كير) من جهة و(2) الحركة: الجيش الشعبى لتحرير السودان (جناح نائب الرئيس السابق رياك مشار الذى يمثل المعارضة) من الجهة الأخرى. وقد جاء الاتفاق نتيجة الوساطة التى ترعاها الهيئة الحكومية للتنمية بدول شرق أفريقيا (إيجاد) منذ اندلاع النزاع المسلح بين الطرفين فى 15 ديسمبر الماضى.

وطالبت القمة اطراف النزاع بالدخول فورا فى حوار سياسى شامل وعملية مصالحة تسمو «فوق المصالح الفردية والسياسية الضيقة.. بهدف بناء دولة قابلة للحياة وبناء مفهوم جديد للوطن فى جنوب السودان» على حد قول البيان الرسمى بشأن الأزمة فى جنوب السودان.

•••

وقد اظهر السياسيون فى الغرب اندهاشا غير برىء إزاء السرعة المذهلة التى تحول بها النزاع السياسى على السلطة بين الرجل الاول والثانى فى الحزب الحاكم إلى نزاع قبلى مفتوح أدى إلى مقتل ما يزيد عن عشرة آلاف شخص وتشريد قرابة نصف مليون آخرين ولجوء اكثر من مائة ألف شخص إلى دول الجوار.

أرى ان دهشة الغرب غير بريئة لأن علامات انفراط دولة جنوب السودان كانت كامنة حتى بداخل اتفاقية السلام الشامل فى 2005 وهى التى جاءت برعاية وضغط غربى كامل وأقرت حق تقرير المصير للجنوب عبر استفتاء بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات. وكانت تلك الفترة ملغمة بالعقبات الدستورية والتنفيذية والتجاذبات بين الخرطوم وجوبا بما حول نص الاتفاقية القاضى بـ«جعل الوحدة جاذبة» إلى كلام «ساكت» كما يقول السودانيون. العلامات الكامنة برزت إلى السطح مع ولادة الدولة الجديدة وقد تجلت فى هشاشة مفهوم الوطن الجامع وفى الحكم غير الرشيد الذى مارسته الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد تحولها من حركة تحرر إلى حزب يدير دولة.

فالجنوب مثل الشمال به تعددية اثنية هائلة ونزاعات قبلية قديمة ومستمرة فى إنهاك نسيجه الاجتماعى، وهو كيان مثقل بتركة عقود من الحرب الأهلية ما يعنى انه بلا بنية تحتية وبلا تعليم وبلا مؤسسات دولة حقيقة تهتم بتوزيع الموارد على السكان وهو أيضا بلا منفذ بحرى. وتشير مؤشرات التنمية إلى استمرار معدلات مرتفعة للفقر. والأهم فى شأن التنمية هو أنه يوجد بأراضيه ثالث اكبر احتياطيات للنفط جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى ــ وسنشير لاحقا إلى أبعاد هذا الموضوع.

وهذه المعطيات كانت تستدعى حكمة بالغة فى الإدارة السياسية لتخطى الصعاب الجمة ولكن حدث العكس.

وقد ظهرت مؤشراته واضحة فى يوليو الماضى حين أقال الرئيس سلفا كير نائبه رياك مشار بعدما اعلن ضمن آخرين من أقطاب الحركة عن نيته منافسة الرئيس كير فى الانتخابات المقبلة على منصب رئاسة الحزب.

الرئيس كير وهو يجمع بين رئاسة الحزب ورئاسة الدولة معا اختار ان يستخدم ادوات الدولة لتنحية خصومه السياسيين وعمل على تقويض آليات الانتخابات والمحاسبة داخل الحزب لتأمين مصالحه. وتحايل لمنع عقد المؤتمر العام للحزب فى 2013 خوفا من خسارة سباق رئاسة الحزب وهو ما كان يعنى بالضرورة أنه لن يكون مرشح الحزب فى انتخابات الرئاسة فى 2015.

كذلك لم يقم الرئيس كير بالإصلاحات الدستورية التى طالبه به خصومه لتقليل صلاحيته وتعنت تجاه المطالبة بإصلاح الأجهزة الأمنية. وهذا موضوع كبير لأن جيش دولة جنوب السودان ليس جيشا نظاميا بالمعنى المتعارف عليه وإنما تحالف ميليشيات جاءت بقيادتها وبولائها المطلق لهذه القيادات القبلية. ولذا حين حاولت فى 15 ديسمبر الماضى قوات من الحرس الجمهورى، وهى من قبائل الدينكا الخاضعة مباشرة لكير، نزع سلاح قوات اخرى من النوير التى تدين بالولاء لمشار انفرط العقد وتصادمت القوات وانقسم الجيش.

ومع تبادل الاتهامات بين الرئيس ونائبه السابق بالخيانة وارتكاب اعمال التطهير العرقى خلال المعارك العنيفة التى نشبت خاصة فى جوبا وفى بور وملكال انقسمت أيضا الحركة الشعبية لتحرير السودان. وهى بما لها من اغلبية برلمانية ويتبعها غالبية المحافظين فى الولايات العشر تمثل عماد دولة جنوب السودان. ويرى البروفيسور فيليب روسلر ان ثمن رفض كير لآليات الحزب التى تضمن المحاسبة وتنظم المنافسة بين طالبى السلطة من اقطاب الحركة الشعبية، هو الزج بالبلاد فى نفق الحرب الاهلية.

وقد خسر سلفا كير أيضا الكثير من الدعم الشعبى بسبب السياسة الرسمية على مستوى الحكم المحلى. فالحكومة جعلت الهوية الاثنية هى الأساس بالنسبة لوحدات الإدارة المحلية التى تنظم وضع الأراضى القبلية بالنسبة للمزارعين وتتحكم بالوظائف فى المناطق الحضرية. وهو حسبما يقول البروفيسور محمود ممدانى امر كفيل بتأجيج الخصومات على اساس اثنى.

•••

إضافة إلى ذلك يرى المراقبون ان نموذج التنمية النيو ــ ليبرالى الذى اتبعه جنوب السودان منذ الاستقلال قد استفاد منه بالأساس النخب الحاكمة على حساب الشريحة الأوسع من الفقراء. وربما كان ابلغ تعبير عن عنوان تلك المرحلة هو إعلان الرئيس كير فى واشنطن امام حشد من المستثمرين الدوليين فى 2011 أن جنوب السودان «منفتح على البيزنس». (راجع مقال خالد مصطفى مدنى، دورية ميريب، عدد 269)

فمع الاستثمارات الضخمة الخاصة بقطاع البترول ( يمثل 98% مما يصدره جنوب السودان وفوق الـ80% من إجمالى الناتج المحلى ) لم تُوجه الدولة بالمقابل استثمارات تذكر لتنمية الريف أو لتحقيق الأمن الغذائى مما أدى لحدوث هجرات داخلية واسعة نحو المدن أملا فى الحصول على فرص عمل افضل. كذلك مع فتح الحدود امام التجارة الإقليمية دون ضوابط ومع قدوم المستثمرين الأجانب زاد الطلب ونشطت المضاربات على الأراضى مما أدى إلى انتزاعها عنوة من القبائل الضعيفة التى ليست لها ظهير سياسى يدافع عن مصالحها مقارنة باهل السلطة من الدينكا والنوير الموجودين فى الحزب والبرلمان والحكومة وبالحكم المحلى.

هذه الأسباب مجمعة أدت إلى توتير السلم الأهلى وربما تفسر قوة مشار العسكرية فى مواجهة الرئيس كير، حيث انضمت إليه قبائل تعانى من التهميش بخلاف قبيلته من النوير.

ولكن المصالح الأجنبية حاضرة بامتياز فى هذا الصراع الداخلى على السلطة. فقد ارسلت الولايات المتحدة مائة من قواتها الموجودة فى افريقيا للتدخل السريع (افريكوم) يومى 18 و 19 ديسمبر لإنقاذ رعاياها وحماية سفارتها فى جوبا وهى لاتزال قريبة من مسرح الأحداث. وقد دخل الجيش الأوغندى بطلب من جوبا لحماية آبار البترول والمصالح التجارية الأوغندية. وهو التدخل الذى انتقضته إثيوبيا والنرويج (لاعب رئيسى مع الولايات المتحدة فى رسم خارطة تقرير انفصال جنوب السودان عن السودان). اوغندا لها مصالح إسترتيجية كبيرة فى جنوب السودان ولكنها عضو فى الإيجاد ويرى المنتقدون ان تدخلها العسكرى يتنافى مع حياد الهيئة كجهة وساطة. وقد علق رياك مشار على الوضع بقوله مؤخرا «لولا تدخل الأوغنديين لكنا الآن فى جوبا».

•••

وبعد سنوات من الاحتراب والفتور مع الخرطوم قبل وبعد الانفصال فقد أوضح وزير الدفاع فى جنوب السودان كول مانيانج، ان حكومته قد تطلب مساعدة الخرطوم العسكرية لحماية آبار البترول. والأكيد ان السلطة فى الخرطوم بحكم التاريخ ومعرفتها عن قرب بالوضع فى الجنوب تملك اوراق ضغط لن تتوانى عن استخدامها إذا أضيرت مصالحها البترولية أو الامنية. كذلك عرضت الصين، وهى المستثمر الأكبر فى قطاع البترول الوساطة المباشرة بين الرئيس ونائبه السابق.

ربما ما يحدث فى جنوب السودان هو احدث تجليات «الفوضى الخلاقة»، وهو المصطلح الذى استخدمته كوندليزا رايس فى الترويج لأجندة الرئيس جورج بوش بشأن «الشرق الأوسط الجديد» فى 2005، صحيح ان الجغرافيا لا تضع جنوب السودان ضمن هذا التصور، لكن هل يجب ان يكون بناء الدولة الخارجة من عقود من الحرب الأهلية على هذا النحو؟

جيهان العلايلي  صحفية مصرية
التعليقات