انتشر فى الأسبوعين الأخيرين خبر موت شباب سوريين هاجروا إلى أوروبا بسبب الحرب، توقفت قلوبهم ووجدوا جثثا فى بيوتهم. ماتوا قهرا، لم تعد أرواحهم تحتمل الغربة، انقض وحش الوحدة عليهم وفكك تماسكهم، ماتوا من الحزن ومن بعدهم عن عائلاتهم، ماتوا من اليأس رغم أعمارهم الصغيرة.
***
شباب ركبوا قوارب الموت ربما، عبروا الحدود مشيا وليلا وتمسكوا بنور رأوه حينها فى آخر الظلام. وصلوا إلى هدفهم، هربوا من الحرب والموت وبدأوا بالتخطيط ففارقتهم الحياة. الموت حزين بطبيعته لكن أن يموت أحدهم من الحزن والقهر والوحدة فيه مستوى آخر من التراجيديا.
***
سارع عدد من السوريين بعد ذلك إلى إنشاء مجموعات مساندة حقيقة وافتراضية تدعو إلى التماسك والالتقاء والوقوف معا فى محاولة لتبديد ذلك الشعور القاتل بالوحدة، فاضت عبارات الحب والدعوة إلى فتح القلوب على شبكات التواصل الاجتماعى وانتشرت بعض المجموعات الافتراضية بشكل شديد السرعة إذ شعر الكثيرون أن بإمكان الوحدة أن تنقض على روح شابة دون تردد وتسحبها من الجسد، وهو ما كان بمثابة «فزعة» أيقظت الكثير من السوريين من انشغالهم اليومى لتحثهم على ممارسة طقس المساندة الجماعية سواء فى الحياة أو على الصفحات الزرقاء.
***
أن يموت شخص من الحزن، أن يتوقف قلبه حرفيا بسبب ثقل الحياة، أن تضغط الحياة بوزنها على قلب يخفق فتسكته، أن يكون ذلك الشخص شابا فى مقتبل العمر ينشر صورا وأخبارا على صفحته الخاصة وفجأة تظهر نعوته وحزن الناس عليه. ثم إن تبدأ حلقات صغيرة بمحاولة البحث عن قلوب أخرى على وشك الانطفاء فتمد لها يد المودة. يحدث ذلك كله فى فضاء افتراضى خوفا من أن يحمل لنا هذا الفضاء مزيدا من أخبار الرحيل والموت قهرا.
***
أفكر فى حجم الحزن الذى امتلك قلب الشباب حتى خنقهم وأنا أقرأ رسائل وصلتنى على مدى أيام تهنئنى بمناسبة تعنينى وأتساءل إن كان بإمكان أى شخص أن يعيش دون حب. تكثر الروايات الأدبية وكتابات علم النفس المتعلقة بدور الحب والعناية فى تشكيل الشخصيات، ويعود المختصون إلى الطفولة بحثا عن أسباب الاضطراب وهم يركزون على نوع الحب الذى حصل عليه الطفل فى سنواته الأولى فى محاولة لتحديد سبب عدم السعادة فى الكبر. أكاد أجزم أن كل طفل قد أحبه أحد حتى لو لفترات قصيرة أو متقطعة، إذ يصعب علىّ أن أتخيل طفلا لم يحبه أحد ولم يحمله أحد ولم ينظر أحد فى عينيه حين كان رضيعا.
***
فى تصورى بعض السذاجة طبعا فالحياة من حولى مليئة بالقسوة ومنظر طفل ينام فى الشارع يُذكِّر بأن الدنيا قد تسحب الدفء من حول شخص بشكل عشوائى وغير مُبرر. قد يقرر القدر أن لا سعادة مكتوبة لشخص ولا حنية سوف تغلفه، والقدر وقتها يكون وحشا لا تفسير للؤمه. كيف يمكن أن تنسحب المحبة من حول أحدهم فيشعر أنه مُعلَّق فى الفضاء، أو بالأحرى أنه يسقط بسرعة لا يستطيع أن يتحكم بسببها بأى شىء؟ يهوى من فوق دون أن يُحيط به أى شىء يتمسك به، إلى أن يرتطم بالأرض فتتناثر أجزاء جسده وروحه.
***
كم بإمكان القلب أن يحتمل، كثيرا ما أتساءل، ثم أتذكر أن القلب عضلة وأنها تقوى مع التدريب، تماما كعضلة الذراع أو الفخذ. إنما تستسلم عضلة القلب أيضا أحيانا وفى حال هؤلاء الشباب فهى تستسلم للحزن. لا نصائح مترفة عندى أُدلى بها فى الفضاء الافتراضى ولا فلسفة أتبرع بها سواء عن طريق أسلوب الرعاية الشخصية «أحبوا أنفسكم» أو عن طريق الحكم والعبارات الدارجة. أنا فعلا لا أعرف كيف نسحب شخصا من آخر خطوة قبل الهاوية، لا أعرف كيف يمكن إجباره على العودة إلى الخلف قليلا ريثما نهدئ من روعه ونطمئنه أنه ليس وحده إلى حد الموت.
***
لكن ما أعرفه هو أن القليل من الحنان قد يعطى جرعة من السكون إلى الروح. القليل من المحبة قد تزيح السواد من أمام العيون. ذرات من الاهتمام قد تُبعد مخالب وحش عن جلد طفل فى الشارع. ربما عانى الشباب فى الغربة من تعقيدات يصعب تفنيدها هنا، لكننى أتخيل لحظات عادوا بها إلى طفولة ولم يطلبوا سوى نظرة أمهاتهم ورائحة الشوربة من مطبخ فى الشتاء. ربما رأوا، قبل أن يسحبهم الموت، غرفة جلوس فيها جهاز تلفزيون يبث مسلسلا رمضانيا جلست الجدة أمامه ومنعتهم من الحركة حتى لا يفسدوا عليها متعة المشاهدة. كم تصبح مهمة تلك التفاصيل اليومية حين نفقدها، كم يصبح العالم باهتا بعيدا عن مشاجرة عابرة حول اختيار قناة للمشاهدة حين لا نجد من نتشاجر معه؟
***
أن يموت شاب من الحزن من شأنه أن يجعلنا نتوقف كثيرا أمام ما قد تفعله الوحدة فى النفس، الوحدة وحش كاسر.