نشر موقع ١٨٠ مقالا للكاتب سميح صعب، تناول فيه الجهود الأمريكية ــ العسكرية والدبلوماسية ــ لتهدئة التطورات فى الشرق الأوسط. تحدث الكاتب أيضا عن العراقيل التى تقف أمام تحقيق الدبلوماسية الأمريكية أهدافها، مشيرا فى ختام مقاله إلى أنه ليس بالضرورة أن تنجح واشنطن فى سياساتها بالمنطقة، فالشرق الأوسط أثبت أنه الصخرة التى تتحطم عليها الأفكار الأمريكية (حربى العراق وأفغانستان مثلا)... نعرض من المقال ما يلى:عبر الدبلوماسية والتصعيد، تُحاول إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن تحقيق اختراق فى الشرق الأوسط، بما تبقى لها من وقت من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية فى 5 نوفمبر، وظيفته وقف حرب غزة وفتح «الأفق السياسى» أمام الفلسطينيين وإطلاق مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وخلق بيئة أمنية واقتصادية فى المنطقة تخلق توازنا مع إيران ومن خلفها الصين وروسيا.
بالنسبة للإدارة الأمريكية كل شىء يبدأ من غزة. الهدنة الطويلة نسبيا، ولو كانت مؤقتة، هى السبيل الوحيد لامتصاص الزخم العسكرى الإسرائيلى وإنجاز عملية تبادل الأسرى والمحتجزين. ومن هنا تنشط الدبلوماسية الأمريكية؛ مستشار البيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط بريت ماكغورك يكاد لا يغادر دول المنطقة إلا لتقديم تقاريره إلى بايدن والعودة مجددا، ووزير الخارجية أنطونى بلينكن بدأ الأحد الماضى جولته السادسة إلى المنطقة منذ 7 أكتوبر، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سى آى إى» وليم بيرنز يضع اللمسات الأخيرة فى باريس يوم الإثنين قبل الماضى على اتفاق الهدنة المقترح بالتفاهم مع رئيس الوزراء القطرى محمد بن عبدالرحمن آل ثانى ورئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلى («الموساد») ديفيد برنياع، أما مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان فيثابر على الاتصال بنظرائه فى المنطقة وخصوصا فى السعودية، ناهيك بالحراك الذى يقوم به الموفدان الرئاسيان الأمريكيان آموس هوكشتاين وديفيد ساترفيلد فى الشرق الأوسط.
وبحسب تعبير وليم بيرنز وأنطونى بلينكن ووزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن، هى اللحظة الأخطر التى يمر بها الشرق الأوسط منذ العام 1973. ويفاقم خطورتها مصادفتها مع موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، واحتمال تسجيل فشل جديد لأمريكا قد يقود إلى هزيمة محققة لبايدن فى الخريف المقبل.
ما يطرحه المسئولون الأمريكيون من أفكار للجم التدهور ووضع القضايا على مسار سياسى، يتطلب أكثر من حلول موضعية. أى أنه لا حلّ فى غزة بمعزل عن سياقات أشمل وخطط أكبر لمعالجة النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى. وهذا لا يعنى، فى الوقت نفسه، أن السبيل ممهدٌ أمام فريق بايدن لوضع طروحاته موضع التنفيذ بسهولة.
• • •
أولى العقبات التى تقف فى طريق المضى فى مسار حل الدولتين الذى تدعمه واشنطن منذ عقود، كان وما يزال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. حاول بايدن استيعابه من طريق المسارعة إلى إنقاذ إسرائيل بعد صدمة 7 أكتوبر وتوفير الحماية العسكرية والدبلوماسية للدولة العبرية بعد مضى أربعة أشهر على حرب غزة.
هذا يفسر الجهد الاستثنائى للدبلوماسية الأمريكية من أجل الوصول إلى هدنة مؤقتة (قابلة للتمديد)، مع جائزة ترضية تنتهى بتطبيع العلاقات مع السعودية، على أن يمر ذلك ولو بالتزام سياسى إسرائيلى بالقبول بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، كما قال الكاتب الأمريكى المخضرم توماس فريدمان فى مقالته الأخيرة فى صحيفة «النيويورك تايمز».
وفى سباق مع الوقت، تراهن واشنطن على أن نتنياهو بات أكثر فأكثر أمام خيارين؛ أوّلهما، المزيد من الالتصاق بالوزيرين اليمينيين المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ومواصلة الحرب وإعادة احتلال قطاع غزة واستيطانه مع المجازفة بفقدان الحماية الأمريكية فى مجلس الأمن الدولى وربما تعرض العلاقات مع أمريكا للضرر. وثانيهما، الميل نحو الوزيرين فى حكومة الحرب بينى جانتس وغادى إيزنكوت، والقبول بهدنة مؤقتة تؤدى إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين أو عن معظمهم من طريق الصفقة التى تتوسط فيها أمريكا وقطر ومصر، وفى الوقت نفسه توفير مساحة أمان لعدم سقوط حكومته بإعلان زعيم المعارضة يائير لابيد استعداده للانضمام إلى حكومة الحرب من أجل تأمين الإفراج عن الأسرى والمحتجزين.
نتنياهو الذى يقترب من ساعة الحقيقة، يصفه رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى السابق غيورا آيلاند، بأنه «مستعد للتضحية بكل مصلحة مهمة للأمن القومى من أجل البقاء كرئيس للوزراء وتجنب إجراء انتخابات.. وهو تخلّص من كل شخص يُمكن أن يُشكّل خليفة محتمل له.. إنه يعمل بالضبط وفقا لإرشادات كتبها ميكافيلى قبل 500 عام».
هذا يعنى أن نتنياهو ربما يوافق على الهدنة المطروحة إذا تلقى ضمانة أمريكية بالبقاء رئيسا للوزراء، لأنه يعى تماما أن أى فترة من الهدوء ستجعل الإسرائيليين ينزلون إلى الشوارع للمطالبة باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة، فى وقت تظهر استطلاعات الرأى أن حزب الليكود الذى يتزعمه لن يحصل على أكثر من 15 مقعدا فى الكنيست إذا ما أجريت الانتخابات الآن، مما يعنى حكما «ذهابه إلى السجن أو الفرار من البلاد»، بحسب المحلل العسكرى الإسرائيلى عوفر شيلاح الذى يعمل مع مؤسسة «تل أبيب لدراسات الأمن القومى».
مُجددا قد يلجأ نتنياهو كعادته إلى شراء الوقت واللاقرار، فى التعامل مع الهدنة المطروحة حاليا، علما بأن فترة السماح الممنوحة له من قبل جانتس وإيزنكوت تضيق، وقد يتسببان باهتزاز حكومته فى حال انسحبا منها وفى تحريك الشارع بقوة ضده.
كما أن نتنياهو لا يُمكنه استبعاد سوابق، ولو نادرة تعرّضت فيها إسرائيل لضغوط أمريكية جعلتها تتراجع عن قراراتها، على غرار تهديد الرئيس الأمريكى دوايت آيزنهاور بفرض عقوبات اقتصادية فى حال عدم امتثال إسرائيل للانسحاب من جزيرة سيناء المصرية عام 1956، وكما حصل مع الرئيس الأمريكى رونالد ريجان إبّان اجتياح لبنان عام 1982 عندما قرّر تأخير تسليم تل أبيب مقاتلات من طراز «إف ــ 15» و«إف ــ 16» من أجل حمل رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيجن على وقف النار، بينما جمّد الرئيس جورج بوش الأب ائتمانات القروض عام 1991 لحمل إسحق شامير على الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام.
• • •
وتُشكّل التفجيرات الإقليمية المتصاعدة، من جنوب لبنان إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق، عامل ضغط آخر على أمريكا من أجل العمل على وقف حرب غزة قبل التورط فى نزاع شرق أوسطى آخر.
وفى 28 يناير الماضى، فوجئت القوات الأمريكية فى «البرج 22» عند مثلث الحدود الأردنية العراقية السورية بسقوط مسيّرة على مهاجع الجنود، ما أدى إلى مقتل ثلاثة منهم وجرح 40 آخرون. هذه المرة الأولى التى يُقتل فيها جنود أمريكيون فى أكثر من 160 هجوما تعرضت لها القوات الأمريكية فى سوريا والعراق منذ 7 أكتوبر. ووقع بايدن تحت ضغط شديد من الكونجرس كى «يضرب بقوة» داخل إيران، وفق ما طالب السناتور الأمريكى الجمهورى ليندسى جراهام، وبين «ردّ على مستويات مختلفة يترك تأثيرا مستداما»، على غرار ما صرح بلينكن.
على الأرجح، اختار بايدن الرد فى الساعات الأخيرة بضربات عسكرية موضعية لا توصل إلى حرب مباشرة مع إيران وتبعث فى الوقت نفسه برسالة «ردع» إلى طهران، بدليل إبلاغ الحكومة العراقية مُسبقا بالأهداف التى استهدفها الأمريكيون، داخل الأراضى العراقية أو فى منطقة الحدود السورية العراقية.
ويعنى تأخر الرد الأمريكى لمدة أسبوع، أن الولايات المتحدة أعطت إيران مساحة أمان كى تخلى الكثير من المواقع، وقد أتى نبأ سحب كبار ضباط «الحرس الثورى» الإيرانى من سوريا فى هذا السياق، بينما هدّدت إيران بأنها «سترد بقوة» إذا تعرّضت الأراضى الإيرانية للقصف الأمريكى.
الآن، تُوظّف أمريكا ردها العسكرى على هجوم «البرج 22» بسلسلة عمليات من اليمن إلى منطقة الحدود السورية العراقية من أجل الضغط على إيران كى تُسهّل التوصل إلى هدنة فى غزة، وكى تُؤثّر على حلفائها فى المنطقة لخفض منسوب التصعيد، وليس لأخذ المنطقة إلى الحرب.
ومن المؤكد أن بايدن يقرأ استطلاعات الرأى الداخلية جيدا، وآخرها يُظهر تدنى شعبيته إلى مستوى قياسى هو 38 فى المائة. ليس بسبب سياسته الخارجية وإنما بسبب توجس الأمريكيين من مستقبل الاقتصاد الأمريكى وقضية الهجرة. وإذا ما أضيف إلى ذلك الإخفاق فى الشرق الأوسط والجمود فى الميدان الأوكرانى، فسيكون بايدن عندها فعلا كما كتبت عنه صحيفة «الجارديان» البريطانية «يسير نائما نحو هزيمة كارثية» فى نوفمبر المقبل.
وليس بالضرورة أن تنجح أمريكا فى تحقيق الاختراق الذى تنشده. وها هو المفاوض الأمريكى السابق فى الشرق الأوسط ديفيد آرون ميلر يُحذّر من أن «الشرق الأوسط هو المنطقة التى تموت فيها الأفكار الأمريكية الكبيرة»، فى إشارة إلى الإخفاقات التى صادفتها الولايات المتحدة فى العراق وأفغانستان وعملية تسوية النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى.
النص الأصلي