فى أوائل عام ٢٠١٤ تلقيت دعوة من مكتب السيد وزير التخطيط د. أشرف العربى للمشاركة فى صياغة مشروع كبير تعمل عليه الوزارة لوضع استراتيجية لرؤية مصر فى عام ٢٠٣٠. الدعوة كانت محددة فى أن أتبنى التنسيق الرئيسى لأحد محاور الرؤية، ألا وهو المحور السياسى، الذى تحول لاحقا إلى محور السياسة الداخلية بعد أن انفصل عنه محور السياسة الخارجية والأمن القومى. كان المشروع يتكون من اثنى عشر محورا للتنمية ووضع رؤية لمصر بحلول عام ٢٠٣٠، وأن يتم ذلك على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هى مرحلة صياغة عناصر الرؤية الرئيسية فى شكل مؤشرات لقياس أهداف كل عنصر من عناصر المحور، والمرحلة الثانية هى مرحلة وضع آليات التنفيذ، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فيفترض أن تكون مرحلة التنفيذ، على أن تكون كل المراحل بتعاون تام بين المجتمع المدنى ممثلا فى الأكاديميين والخبراء والمنظمات غير الحكومية من ناحية والمؤسسات الحكومية من ناحية آخرى، وأن يحظى كل محور بنقاش مجتمعى واسع قبل أن يتم تبنيه فى شكله النهائى.
سعدت بالدعوة وقررت أن أتحمل مسئولية التنسيق للمحور السياسى فى الرؤية، وعلى مدى عشرة أشهر (من يناير إلى أكتوبر من عام ٢٠١٤) عملت بشكل تطوعى بالقرب من عدد كبير من الأساتذة والزملاء الأعزاء الذين لبوا الدعوة «متطوعين بالوقت والجهد» منهم الكاتب الصحفى الأستاذ أيمن الصياد وأساتذة العلوم السياسية الدكتور مصطفى كامل السيد والدكتورة نيفين مسعد وفى مراحل لاحقة استعنا بعدد كبير آخر من الخبراء منهم ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ الأستاذ والباحث هشام جعفر (القابع فى السجن الآن!). كانت تتم اجتماعات دورية على مدى الأشهر العشرة بين أعضاء المحور السياسى، وكذلك بين منسقى المحاور جميعا فى حضور الدكتور أشرف العربى وآخرين من رجال الأعمال والخبراء والمتخصصين.
***
كانت البدايات مشجعة، وكانت الملحوظة الإيجابية الأولى أن عددا كبيرا من هؤلاء الخبراء كان ينتمى لمعسكرات فكرية وسياسية مختلفة، كما كانت الملحوظة الإيجابية الثانية أن النقاشات كانت تتم بحرية واستقلالية تامة فلم يتدخل فى عملى أو يوجهنى أحد. وعلى الرغم من رؤيتى النقدية للمحور فإننى حصلت ومعى باقى الأساتذة والخبراء على حريتى التامة فى صياغة الرؤية السياسية، وهو ما اعتبرته بالفعل منحى إيجابيا وطريقة عمل محترمة للحكومة لم نعهدها مسبقا خاصة مع تأكيد المسئولين فى الوزارة وعلى رأسهم الوزير أن هذه الرؤية ليست ملكا للحكومة ولا لوزارة التخطيط ولكنها ملك للمجتمع ككل.
خارج قاعات الحوار الذى كانت جلساته تعقد داخل وزارة التخطيط كان المشهد مختلفا. إذ كان واضحا لنا جميعا كيف كانت سياسات النظام تقتل، واقعيا، كل معانى ومحاور الرؤية التى تركز فى محورها السياسى، على الأقل، على حقوق الإنسان والتعددية ونفاذ القانون والدستور إلى آخره من معانى الديموقراطية والتغيير والإصلاح. فقررت فى أكتوبر عام ٢٠١٤ أن أقدم اعتذارا مكتوبا ومسببا إلى مكتب الوزير عن عدم الاستمرار فى العمل. ثم قابلت الدكتور أشرف العربى وشرحت له أسبابى وتقبل الرجل اعتذارى على وعد منى بالمساعدة عن بعد لو تطلب الأمر ذلك، وهو ما فعلته بالفعل بعد ذلك فى بعض المناسبات التى طُلب منى فيها أن أساعد. ظللت متابعا لخطوات الرؤية وسعدت كثيرا أن منتجها النهائى فيما يخص محور السياسة الداخلية لم يتغير أبدا فيما كتبته وناقشته مع الخبراء، نحن نتحدث فى الرؤية أن تكون مصر بحلول عام ٢٠٣٠ دولة ذات نظام سياسى ديموقراطى يحترم مبادئ حقوق الإنسان ويقوم على سيادة القانون من خلال عدة محاور تقوم على التداول السلمى للسلطة ودعم العمل المؤسسى وإثرائه من أجل دعم الدولة الوطنية مع ضمان احترام مجتمع مدنى حر وتعددى هو ضمانة لاحترام مبدأ المواطنة فضلا عن دعم اللامركزية وتمكين المجتمع المحلى من المشاركة فى صنع واتخاذ القرار مع دعم وتمكين الأحزاب السياسية وحريات العمل العام باعتبارها ضمانة للديموقراطية وغيرها من المحاور ومؤشرات القياس التى يمكن مطالعتها على الموقع الرسمى لوزارة التخطيط على الرغم من أنها لم تظهر على الموقع الرسمى للرؤية كأهداف لا أعلمها!
بعد انتهاء التجربة كنت راضيا عن الخبرة التى خضتها لثلاثة أسباب، السبب الأول أن فى الحكومة مساحة ما مازالت مفتوحة للجميع على الرغم من اختلاف الآراء ووجهات النظر بل والمواقف السياسية، والسبب الثانى أن المحور السياسى على الأقل حظى بنقاش حقيقى غير مصطنع ولم يتدخل أحد أبدا فى عملى أو عمل باقى الخبراء وهو مؤشر إيجابى للغاية أخذا فى الاعتبار أن تلك الفترة كانت عصيبة للغاية سياسيا وأمنيا فى مصر، وثالثا، لأَنِّى بالفعل خضت خبرة معتبرة وتعرفت على أشكال مختلفة للعمل التعاونى مع الحكومة وطورت مهارات التفاوض والنقاش وتعرفت عن قرب على آراء مختلفة عن آراء دائرتى الضيقة وكلها أمور ضرورية للسياسة على المستويين الشخصى والعام!
***
انتظرت طويلا حتى أرى مصير الرؤية، لم أكن متفائلا وخصوصا بعد علمى بالتأجيلات المتتالية للإعلان عن الرؤية، ولعلمى أن أحد المشاركين فيها يقضى أيامه فى السجن فى ظروف صحية وإنسانية صعبة (الباحث هشام جعفر). ثم فجأة قالت الأخبار إن الرؤية سيتم تدشينها (الأربعاء ٢٤ فبراير) وفى حضور الرئيس، كنت أتفهم أن الدعوة لم توجه لى للحضور لأَنِّى أولا اعتذرت عن عدم العمل فيها، ولأنى ثانيا موجود فى الخارج فى مهمة علمية، ولكنى فوجئت، ليس فقط باختفاء المحور السياسى، بل بأن بعض الذين شاركوا فى صياغته، وكانوا من المنادين بأن تكون مصر «دولة ديموقراطية تحترم حقوق الإنسان» لم توجه لهم الدعوة من الأساس. وتساءلت كيف يتم تدشين الاستراتيجية فى غياب هؤلاء والاكتفاء بحضور رئيس الجمهورية؟ ألا يعد ذلك مخالفة لما تم إعلانه مسبقا من أن الاستراتيجية هى ملك للمجتمع؟
تمهلت فى الحكم وجلست أتابع يوم التدشين، ولدى ثلاث تحفظات على هذا اليوم من حقى أن أكتبها الآن، ليس فقط باعتبارى أحد المشاركين فى كتابة الرؤية، ولكن كباحث وككاتب مهتم بالشأن العام والذى مثل لى يوم التدشين هذا تهديدا حقيقيا لمعنى هذا العمل العام وغاياته وأهدافه.
التحفظ الأول أن عرض محاور الرؤية كان مقتضبا للغاية بشكل أخل بها وبمحاورها، بل إن المحور السياسى لم يتم التطرق إليه من الأصل على الرغم من أهميته الشديدة. مجرد حديث مقتضب من الدكتور العربى وإشارة لم تستغرق سوى ثلاث ثوان من الرئيس فى الإشارة للرؤية من أصل خطبة مطولة للغاية وصلت إلى ما يقرب من ٩٠ دقيقة.
التحفظ الثانى أنه لم يحدث أى حوار حقيقى على الرؤية فى يوم تدشينها. وفى حين حرص الرئيس على التوقف والحوار فى بعض المداخلات التى ألقاها المسئولون إلا أنه لم يفعل الشىء نفسه بخصوص الرؤية على الرغم من أن اليوم بالأساس كان لتدشينها كما أعلنت مؤسسة الرئاسة.
أما التحفظ الثالث والأخير فهو أن يوم تدشين الرؤية والتى هى فى النهاية فلسفة ليس فقط للتخطيط والتنفيذ ولكن أيضا للشراكة بين الحكومة والمجتمع المدنى التى تتسع للمعارضين والمؤيديين والتيارات الفكرية والسياسية المختلفة فى العمل على مستقبل الوطن، فإن خطبة الرئيس للأسف أخذت منحى مختلفا تماما وكانت هناك إشارات فى خطبته لا يمكن وصفها حتى فى أكثر العبارات محافظة إلا بأنها سلبية وتؤسس لفكرة الانفراد فى التفكير والتخطيط والتنفيذ وتهدم مبادئ المحاسبة والشفافية وتمثل تهديدا جليا للمعارضيين أو أصحاب الرؤى المختلفة ليس فقط عن رؤية الدولة بل وحتى عن رؤية الرئيس الفردية وكلها إشارات مقلقة ومخيفة وتهدم معنى الاستراتيجية من الأساس وللأسف حدث ذلك كله فى يوم تدشينها.
***
رؤية مصر ٢٠٣٠ كانت ــ ومازالت ــ اختبارا لحقيقة العمل التعاونى بين الدولة والمجتمع المدنى بمعناه الواسع، كانت ومازالت اختبارا للمساحة الفاصلة بين النظرية والتطبيق، لمدى قدرة مصر على أن تعمل جماعيا بدلا من أن تعزف فرديا، هى باختصار اختبار للماضى والحاضر والمستقبل القريب. لا توجد دولة يمكن أن يتم إدارتها بشكل منفرد، لا توجد دولة يمكن أن تكون رهن تفكير وتخطيط فردى أيا كان موقع هذا الفرد. هذه ليست مزايدة على أحد، ولا من أجل إحراج أحد، ولكنها شهادة عن عمل محترم كان يجب أن يأخذ مسارا مختلفا، وظنى أن الفرصة مازالت متاحة، بشرط أن يتم الإعلان عن تدشين جديد يشهد نقاشا وحوارا حقيقيا ليس فقط حول محاور الرؤية ولكن أيضا عن كيفية تنفيذها بحيث يكون التنفيذ جادا بعيدا عن الشعارات والصياغات البراقة.
مصر أكبر من الجميع، والحاضر سيذهب إن عاجلا أو آجلا كما ذهب الماضى أيضا، كل الأفراد زائلون وتبقى الأوطان، فإما أن نفكر من أجل الوطن أو نبقى فى أماكننا مجمدين وأسرى لشعارات الماضى السحيق. فَلْتَحْىَ مصر بشعبها وسياداتها، دولة مؤسسات ودستور وقانون وعمل جماعى يخضع لقواعد المحاسبة والشفافية.
أحمد عبدربه
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة.