ارتحنا بعض الشىء من كثير من الأبواق وقلنا شكرا لك أيها الفيروس ظلموك.. فقالوا قاتل رغم أنه رحم الملايين من البشر من كثير من الأصوات. ولكن كما أن الفيروس يتأقلم فتلك الأبواق تأقلمت سريعا وعادت لتقنع هنا وهناك فى أماكن مختلفة حتى وصلت لأهم سلطة فى أى دولة ألا وهو البرلمان أو بيت الأمة وصوتها ووجدانها وإلى السلطة الرابعة.. منبرين أساسيان لأصوات الأغلبية أحيانا والأقلية كثيرا ولكن الأولى اكتفت ببعض المساحة فى ظل أنظمة وضعت الأقفال حتى على تكنولوجيا التواصل فراحت توقف الواتس آب أو تراقب التوتر وتتلصص على حسابات الأفراد على الفيسبوك لا لتوقف قذارة بدأت تنتشر فتستخدم الحداثة لنفس الأمراض القديمة المستشرية..
***
عادت لتبرز وجوه تمنينا أن «تخليها فى البيت» كما نحن، وأن تكمل استراحتنا هذه فتريحنا من كثير من السواد فى وقت عاد العالم ليعمل على مصالحات مع بعضه البعض.. عاد ليعرف من هو الصديق ومن هو صاحب المبدأ ومن هى الإنسانية التى لن يخيفها فيروس لتقول إن على الوافدين أن يخرجوا الآن من أوطاننا.. «ارحلوا فمستشفياتنا وأجهزتنا الصحية لا تستوعبك» ارحلوا لأن بيوتكم المكتظة بأوساخكم بدأت تزحف على قصورنا المحصنة.. أرحلوا لأننا الآن لا نحتاج لكم فقد أقفلت الورش والمحلات والمصانع ولم يعد يهمنا إلا من يبقى ليكنس أوساخنا ويصلح كهرباءنا واتصالاتنا التى عندما تنقطع نشعر بالاختناق ونكون بحاجة إلى أوكسجين الانستجرام وإلا فالفيروس من أمامنا والموت بالوحدة التى صنعناها من خلفنا!!
***
كلما مرت مجتمعاتنا بمرحلة ضيق كان اللوم على العمالة الوافدة حيث تتوجه أصابع الاتهام لها، فهى مصدر ضيق عيشنا لأنها تنافسنا على قوت يومنا!! وهى تزاحمنا فى شوارعنا وطرقاتنا السريعة وأسواقنا الشعبية ومراكز التسجيل والصحة والتعليم وحتى فى الهواء الذى نستنشقه هى مسئولة عن تلوثه.. ماذا بعد من جرم لم ترتكبه هذه الفئة؟! ماذا بعد؟!
***
عندما قامت دولنا وهنا لا أعنى دول النفط فقط بل وأيضا دول أخرى انظروا إلى لبنان مع العمالة السورية والعمالة الإفريقية متدنية الأجور فى كثير من دول شمال إفريقيا.. كلنا متهمون بالعنصرية، كلنا نأتى بهم فهم لم يركبوا القوارب ويعبروا البحار ويتسللوا عبر شواطئ وإلا ما اكتظت عماراتنا بيافطات مكاتب استخدام لا تستحى من أن يتضمن إعلانها «العاملة الفلبينية بـ 600 دولار والسريلانكية بكذا والإثيوبية بكذا والطباخ البنغالى ووو».. هذه المكاتب التى ليست أكثر من ذاك الذى كان ينادى فى أسواق العبيد ويحسن وصفه بأنه شديد البنية وقادر على تحمل الأعمال الشاقة أو أنها ساحرة فى الجمال وتصلح لأن تكون جارية تمشط شعر «المعزبة» بالنهار وتسلى «مالكها» فى المساء!!
***
فماذا تختلف هذه المكاتب عن تلك الأسواق؟! وماذا فعلنا عندما قلبنا التركيبة السكانية بعلمنا ومعرفتنا ومع سبق الإصرار والترصد حتى تعب الاخصائيون والباحثون الاجتماعيون فى ثمانينيات القرن الماضى وما بعد من التذكير بانعكاسات ذلك على المجتمعات فى هذه الدول.. ولم تكن هناك آذان مصغية. فهذه عمالة رخيصة وليست لها حقوق ولا تستطيع أن تطالب بها حتى لو عرفتها حسب قوانين العمل المنمقة والباقية فى جوارير وزارات العمل الفاشلة بجدارة.. فكيف يستطيع المواطن أن يقبل بمرتب متدنٍ وأقل من الحد الأدنى للأجور؟! لا يهم سنوفر له بدل بطالة لا يطعم بل يسد العيون فقط.. هذه العمالة هى التى بنت عماراتنا الشاهقة، لا يفارقنى مشهد فى أحد المدن التى تتفاخر بأعلى مبنى وأضخم مركز تجارى إلخ إلخ والساعة الثالثة صباحا وطوابير من عمال البناء تصعد لتلك العمارة وأخرى تغادر ويتباهى بعض رجال أعمالنا المبجلين بأن العمل جارى على مدى أربع وعشرين ساعة وهم جالسون فى ذاك المطعم الفاخر يدخنون سيجارهم الكوبى ويدفعون لوجبة ما يعادل مرتب عامل وافد فى شهر أو ربما أكثر من شهر!!
***
هم من قاموا بتنظيف مدننا وشوارعنا، وإصلاح كل البنية التحتية من اتصالات إلى مجارى إلى طرق فى حرارة تصل أحيانا إلى 60 درجة، هم ينظفون بيوتنا ويطبخون وجباتنا اللذيذة ويربون أطفالنا ويغسلون ملابسنا وينامون بعد أن يخلد كل فرد فى المنزل إلى النوم حتى لا يشتهى أحد الأولاد طبق مما يحب ولا تكون الشغالة موجودة سمعا وطاعة «مولاى».
***
يتراص العمال الذكور منهم فى بيوت مكتظة، الجسد عند الجسد وكل المرافق مشتركة لأعداد هائلة ثم نلومهم «لأنهم باختصار وسخين» ونحن نتعطر بأغلى العطور..
***
جاء الفيروس فماذا فعلنا؟؟ هنا عدنا لتلك النعرة، عاد كل منا للمناطق المظلمة من نفسه ولم يعد هناك من يستحى لأن الخوف سيد الموقف والأمر أصبح كل لنفسه.. فالمطبلون لحقوق الإنسان يرددون اعزلوهم وأخريات يقلن رحلوهم وكثيرون يصرخون عبر الشاشات والمنابر المتاحة لهم أو لهن فيما ذاك العامل الهندى لا يجد من يسمع أنينه.. كلهم وكلهن عادوا للتنديد بأكبر «مجرم» فى المجتمع ألا وهو تلك العمالة.. كم أنت كبير يا فيروس فقد كشفت الجميع ولم يبقى أى غطاء هنا أو هناك.. فمن يستر عورات نفوسكم؟!
قديما كان يقال تعرف معادن البشر فى وقت الأزمات.. مع الوقت تحول الأمر إلى أنه فى المحن تبرز المعادن والمبادئ وليس فى أوقات الرخاء..