مهمتى الأولى والكبرى كمدير صناديق استثمار هى إدارة المخاطر. فآخر ما يريده المستثمر هو أن تصيب استثماراته أو مدخراته خسارة يصعب تعويضها. وخلال القيام بمهمة إدارة المخاطر تأتى مهمة أخرى هى انتهاز الفرص لتحقيق الربح. و الفرص لها عدة أشكال كلها تحدث عندما يكون هناك اختلاف بين سعر الأصل وقيمته العادلة، فنستطيع أن نستفيد من هذا الفارق لتحقيق الربح سواء بالشراء أو بالبيع على المكشوف Shorting أو بطرق أخرى أكثر تعقيدا. فى كل الأحوال نحاول الابتعاد عن التكهن والتخمين فى قراراتنا الاستثمارية؛ لأن غير ذلك يأخذنا من خانة المستثمرين إلى خانة المضاربين بل والمراهنين، وهو ما نكرهه ويكرهه كبار المستثمرين. الاستثمار يجب أن يكون عملية أقرب للحساب وليس أقرب لضرب الودع. ومع ذلك، فهذا لا يمنعنى كشخص عادى يدرس أنماط الأسواق أن يكون لدى تخمينات مبنية على دراسة أو على خبرة وهو ما يطلق عليه بالانجليزية Educated Guess.
أما عن هذه التوقعات، فليسمح لى القارئ الكريم أن أضعها كلها فى خانة «كذبة إبريل». أمثالى من مديرى الاستثمار من الممكن أن يغيروا رأيهم بين ليلة وضحاها عندما يتغير ولو حتى عنصر واحد يجعلنا نعيد حساباتنا. ذكرت فى مقالات سابقة أن مثلى الأعلى من مديرى الاستثمار المخضرمين هو «ستانلى دراكينميلر» الذى كان مدير صناديق استثمار كوانتوم المملوكة لمدير الاستثمار الأسطورى «جورج سورس». من المعروف عن ستانلى أنه يستطيع أن يغير رأيه بسبب تغير فيما قد يراه البعض أصغر العناصر وبمنتهى السرعة، وهى السرعة التى وصفها بعض المحللين باستخدام التعبير الانجليزى الشائع At the drop of a dime، أى أنه قد يغير رأيه فى مدة لا تجاوز المدة التى تحتاجها عملة معدنية فى السقوط على الأرض. من القصص الطريفة عنه أنه كانت محفظته الاستثمارية مليئة صبيحة يوم الاثنين الأسود عام ١٩٨٧. عندما دخل الشركة صباحا استدعاه سورس إلى مكتبه وتناقشا قليلا وخرج ستانلى من الاجتماع وهو عاقد العزم على بيع أغلب محفظته بل وأيضا إضافة بعض السندات الحكومية التى عادة ما ترتفع أسعارها عند انهيار الأسواق. وقام بذلك فى الساعات الأولى من اليوم وبنهاية اليوم بينما كان أغلب مستثمرى أمريكا يعانون من الاكتئاب الحاد كان ستانلى يحصر مكاسبه.
أكتب هذا المقال يوم ٧ مارس ــ قبل حوالى ثلاثة أسابيع من نشره ــ مع وصول البترول لسعر ١٢٠ دولارا للبرميل. وإليك عزيزى القارئ تصورى لما سوف يحدث لأسعار السلع المتأثرة بالمواجهة العسكرية فى أوكرانيا وأهمها البترول:
ارتفاع معظم أنواع السلع المتأثرة بالحرب هى أقرب للنهاية من البداية حتى وإن شهد العالم استمرار صعود الأسعار مؤقتا. فى حرب الخليج الأولى ومع غزو العراق للكويت فى أغسطس ١٩٩٠ ارتفع سعر برميل البترول خلال أسابيع قليلة لأكثر من ثلاثة أضعاف. وحتى بعد تحرير الكويت فى فبراير ١٩٩١ مضت عدة شهور قبل أن يعود الانتاج لمعدلاته الطبيعية. أما عن سعر البترول فقد بدأ ارتفاعه فى أغسطس مع بدء الغزو كما أوضحنا، ثم انتهى وبدأ انهيار السعر فى أكتوبر ١٩٩٠ أى قبل شهور من إتمام العمليات العسكرية وعودة الانتاج لمعدلاته الطبيعية. تعلمنا من أساتذتنا أن الأحداث الطارئة التى تؤثر على جانب العرض فقط من معادلة العرض والطلب يكون تأثيرها دائما مؤقتا ولو طال الوقت. قد يستمر هذا التأثير لعدة شهور ولكن فى النهاية يجب أن يعود السعر لمعدلاته الطبيعية التى تمليها ديناميكيات العرض والطلب العادية. والحقيقة أنه حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لا يوجد تأثير حقيقى على معدلات العرض والطلب العالمية للبترول أو حتى للقمح. خاصة وأن البترول الروسى لم يتم منعه عالميا. الأقرب لمنعه هى الولايات المتحدة ولكنها لا تحتاجه ولا تعتمد عليه مثل أوروبا أو الهند أو الصين. فإلى أن يتم منع أو تجريم تداول البترول والغاز الروسى عالميا فإن التغير الحالى فى العرض الذى أدى إلى ارتفاع السعر لا يتعدى كونه خوفا مما قد يكون. سعر بترول الأورالز الروسى الذى يتم عرضه اليوم بسعر قياسى تحت سعر برميل البرنت بحوالى ٣٠ دولارا أمريكيا للبرميل بفارق سعر غير مسبوق. ومع ذلك، فما زال المشترون يخشون التعاقد على شحنات من هذا البترول. وبالتالى سيتقلص هذا الفارق بالتأكيد مع الوقت إن لم يتم تجريم تداول البترول الروسى وظهور المشترى المستعد للاستفادة من الفارق.
بالتالى جزء كبير من سعر برميل البترول أو إردب القمح اليوم يعكس تكلفة المخاطر المحتملة أو تكلفة صعوبة فى الشحن ولا يعكس انخفاض المعروض عن المطلوب. الأسبوع الماضى تداولت أخبار عن توقف حقل شرارة الليبى عن الانتاج وهو ما يعنى اختفاء ٤٠٠ ألف برميل يوميا من جانب العرض. لم يلتفت المتعاملون المخضرمون فى سوق البترول إلى هذا الحدث الذى يؤثر تأثيرا حقيقيا على صورة العرض والطلب. برميل البترول فى وقت كتابة هذا المقال سعره حوالى ١٢٠ دولارا محمل بتكلفة مخاطر قدرها حوالى ٤٠ دولارا. وهو ما يفوق بكثير مقاييس العرض والطلب المعتادة فى السوق. بمعنى آخر، تفاعل المستثمرين مع أحداث الحرب سيؤثر على السعر أضعاف تأثر السعر بأساسيات السوق. وبالتالى فوصول السوق لحالة استقرار حتى وإن كانت حالة الاستقرار هذه تعنى استمرار المواجهة الجيوسياسية، فذلك فى حد ذاته يزيل جزءا كبيرا من زيادة السعر، إلا فى حالة حدوث تصعيد فى عنيف وهو ما يستبعده أغلب المحللين فى الوقت الحالى.
فى هذا المستوى من الأسعار، يبدأ حدوث ما يسمى بـ«تدمير الطلب» Demand Destruction. مع ارتفاع أسعار الكثير من السلع الأساسية بصفة ــ غالبا ــ مؤقتة وحتى إن لم تكن مؤقتة فهى مفاجئة لقدرات المستهلك على الصرف، يبدأ المستهلك فى إعادة تقييم أولوياته واحتياجاته. ربما يقلل من السفر، مدمرا بذلك جزءا من الطلب على السفر بالطائرات وبالتالى على الوقود. ربما يقرر تأجيل شراء سيارة جديدة مدمرا بذلك جزءا من الطلب على السيارات. ربما يؤجل قرار تشطيب منزله مدمرا بذلك جزءا من الطلب على مواد البناء. نقول دائما إن الاقتصاد والاستثمار يحدث على الهامش On the margin. بمعنى أنه يكفى أن يتأثر الطلب من أحد العناصر الهامشية فى السوق ليؤثر على المعادلة الشهيرة، وبالتالى على السعر. ولهذا السبب ولأسباب أخرى، فإن الصعود المكوكى لأسعار البترول كان دائما متبوعا بتباطؤ اقتصادى حتى ولو كان مؤقتا أو إقليميا أو كلاهما، فما بالك عندما يكون الصعود المكوكى فى عدد من السلع الأهم بجانب البترول مثل القمح. وهذا التباطؤ فى حد ذاته يولد ضغطا إضافيا على الأسعار. وهذا عزيزى القارئ هو توقعى الأخير فى هذا المقال وهو دخول العالم وبالأخص أوروبا فى حالة تباطؤ اقتصادى قد تصل لكساد مؤقت ستسرع من وتيرة هبوط الأسعار بل وفى بعض الأحيان انهيارها.