يستغرب البعض عندما أتناول فى مقالاتى مواضيع تبدو بعيدة عن الاقتصاد وتناقش السياسة الدولية أو المشكلات الاجتماعية، ولكن ما فائدة الاقتصاد إذا لم يكن انعكاسا وترجمة للسياسات وللاتجاهات المجتمعية؛ التى تتأثر بدورها بالاقتصاد، ثم يستمر هذا التأثير المتبادل فى دائرة لا نهائية.
سيتعجب البعض عندما أقول إننى خلال جولاتى اليومية فى شوارع زيوريخ ــ التى انتقلت للعيش فيها منذ أقل من عام ــ أشعر أحيانا أننى دخلت آلة الزمن فى رواية هـ. چ. ويلز المعروفة وأننى أمشى فى شوارع القاهرة أو الإسكندرية القديمة. فالطراز المعمارى شبه متطابق. هذه عمارة أعرف مثيلة لها فى حى الدقى، وهذه فيللا رأيت مثيلتها فى مصر الجديدة أو المعادى. أما عن منطقة وسط البلد لدينا فإنى أزعم أنها ليست لها مثيل هنا فى روعة معمارها وتخطيطها. ربما أكون مخطئ وبالتأكيد أنا منحاز ولكن عندما أخذ عائلتى فى عطلة نهاية الأسبوع إلى أحد الشواطئ الكثيرة المطلة على بحيرة زيوريخ، فأتذكر تخطيط شواطئ الإسكندرية بكابيناتها ذات الأبواب الخشبية وبساطتها وبساطة المصطافين واستمتاعهم بالماء والجو الجميل، وأستيقظ فجأة على حقيقة أن الفارق بيننا وبينهم هو حرصهم المستمر على الحفاظ على موروثهم الثقافى بل وتطويره بشكل يعكس أيضا حرصهم على الحداثة، فالشواطئ مثلا معظمها عامة، أى أن استعمالها مجانى؛ أما الشواطئ الخاصة فتديرها البلدية ورسومها ٨ فرانك سويسرى للبالغ (نحو ١٥٠ جنيها) ومجانية للأطفال. تشمل الرسوم استعمال جميع مرافق الشاطئ، أما استخدام الكابينة فلها رسوم أخرى رمزية. فى حين أن سعر الكابينة فى بعض شواطئ الساحل الشمالى الجديدة قد وصل لأكثر من مليونى جنيه مصرى، المواطن السويسرى ملتزم جدا ومع قيام البلدية بعمليات التنظيف والصيانة الدورية يبقى الشاطئ فى أفضل حال، أتذكر أننى عند مرورى بالحديقة العامة بجوار البحيرة فى أوائل الصيف، رأيت متطوعين بملابس غطس ينظفون البحيرة استعدادا لموسم الصيف!.
حتى فى عاداتهم أرى السويسريين يشبهون العادات التى تربى عليها آباؤنا وأجدادنا وشهدناها وإن لم يكن لنا الحظ أن نمارسها. أتذكر جدى قبل العشاء فى منزله فى المنصورة وهو يجلس فى البلكونة يستمتع بالهواء النقى ومشاهدة ما يحدث فى شارع المحافظة، وأتذكر عندما ذهبت للعشاء عند أستاذنا الدكتور عبدالمنعم عبيد أخذنا للبلكونة؛ حيث تناولنا العشاء فى جو ليلة صافية جميلة وأمتعنا بحديثه عن دراساته لزراعة الأعضاء وتجارب التأمين الصحى فى العالم، الجلوس فى البلكونة فى سويسرا جزء من الثقافة أيضاة جلسات الكوتشينة وشرب المرطبات والاستماع للموسيقى ومشاهدة ما يحدث فى الشارع، هى عادات كانت مترسخة عند الأجيال القديمة، فلماذا يا ترى توقفنا عن الجلوس فى البلكونة؟
فى كتابه «ماذا حدث للمصريين»، عزا الدكتور جلال أمين جزءا من تغير المجتمع المصرى إلى الهجرة لدول الخليج حيث الثقافة مختلفة ومع تزايد أعداد المهاجرين وعودتهم، زاد تحولنا نحو الثقافة الخليجية المتحفظة. فهل كان ذلك أحد أسباب توقف المصريين عن الجلوس فى البلكونة؟ هل هو التلوث أم الزحام أم سوء التخطيط؟ إذا تم بناء كوبرى فجأة أمام شرفتك فستتوقف عن استخدامها حتما، أتذكر بعد انتقالى لمنزلى فى الطريق الصحراوى؛ حيث كانت المنطقة كلها ذات طابع خاص بمنازل من طابقين فقط، وظل هذا الأمر لأكثر من 15 عاما إلى أن فوجئنا بمشروع عمارات متعددة الطوابق يبدأ بجوارنا ويجبرنى على تغيير نمط استعمالى لبيتى، فهل تغير نمط استخدامنا لبيوتنا وللبلكونة مع عشوائية التطوير على مدى عقود؟
هل الجلوس فى البلكونة يعكس هدوءا نفسيا وطمأنينة نفتقدها اليوم مع تعقيدات الحياة وصعوبتها؟ العامل السويسرى لديه ساعة غداء مقدسة، لن ينتقص منها دقيقة ولن يؤخرها لأى سبب، هى ملكه وحده، ويصعب أن يرد فيها على اتصال تليفونى أو على رسالة، فى بلادنا والبلاد النامية عامة ساعة الغداء إذا وجدت فهى عيب وتكاسل إذا كانت ساعة كاملة أو إذا لم ترد على اتصال تليفونى أو على رسالة، وجدت صعوبة لبعض الوقت من أجل التأقلم على ذلك ولكنى وجدتها عادة صحية جدا تساعدنى على استئناف يوم العمل متيقظا ومستريحا، سويسرا بلد شديدة الغلاء والالتزامات فيها كثيرة ولكن الحقوق فيها أيضا كثيرة وواضحة، فى هذا النظام من الصعب أن يحدث شىء يجعل حياتك تنقلب رأسا على عقب، قد يحدث ذلك بالطبع أحيانا، ولكن ذلك يحدث أكثر بكثير فى بلادنا.
فى المجتمعات الغربية لا يمكن أن تجد ظاهرة أو حدثا لم يقم عدة جهات بدراسة أسبابها وأبعادها وتبعاتها. الأسباب المحتملة التى استعرضناها تمس علم الاجتماع والتخطيط المحلى والاقتصاد ومناحى شديدة الأهمية من حياتنا فهل نتجرأ وندرس لماذا لم نعد نجلس فى البلكونة؟
مدير صناديق استثمار دولية