نموذج الاقتصاد العالمى المعمول به منذ عقود بل ربما قرون يستتبع خلق فقاعات اقتصادية متتالية تقوم وتنتهى خلال سنوات. والفقاعة عادة تتكون مع اكتشاف جديد أو تطور قطاع أو صناعة تطور يجعل جموع المستثمرين يتوقعون زيادة سريعة ومطردة فى المكاسب الناتجة عن هذا التطور حتى يصلوا لمرحلة اللا معقول وتستمر قيمة الاستثمار فى الزيادة بسبب فكر القطيع حتى تأتى اللحظة التى يبدأ فيها المستثمرون فى التردد، يعقبها الكارثة بانخفاض سريع فى قيمة الاستثمار أو ما يسمى بانفجار الفقاعة. هذا الانفجار عادة يترك وراءه صناعة أو فكرة جيدة تستمر ولكن يتم تقييمها طبقا للطرق المعتادة للتقييم. نماذج الفقاعات عديدة ومثالى المفضل دائما هو «جنون التيوليب» حيث وصل سعر بصلة التيوليب فى هولندا فى القرن السابع عشر ليماثل سعر منزل بكامله. فى بدايات القرن العشرين. مثلا كان هناك العديد من الفقاعات مع قدوم الثورة الصناعية والتطور السريع فى عالم الصناعة والاتصالات والمواصلات مثل فقاعة مصانع الحديد وفقاعة صناعة الطيران وفى بداية القرن الواحد والعشرين فقاعة الانترنت وفقاعة شركات الاتصالات مع ثورة المحمول ومؤخرا فقاعة البيتكوين.
فى السنوات الأخيرة، وبعد الأزمة المالية العالمية ظهرت فقاعة جديدة وهى فقاعة رأس المال المخاطر. أو Venture Capital وهى فكرة تكاد تكون مصممة للاستفادة من فكرة الفقاعات. هى شركات أو صناديق استثمار تستثمر فى فكرة أو شركة، عادة ما تكون جديدة أو مطورة، ولا يعتمدون على الطرق الاعتيادية للتقييمات ولكن ينظرون على مدى قدرة الفكرة (أو الشركة) على جذب العملاء (أو المستخدمين) ويقومون بالاستثمار أحيانا كثيرة فقط بغرض زيادة عدد المستخدمين حتى لو لم يكن هناك أى رؤية لطريقة «تنقيد» هؤلاء المستخدمين. والمقصود بالتنقيد monetization هنا هو الحصول على عائد من المستخدم كافٍ للحصول على ربحية. هو نموذج يصعب على مديرى الاستثمار الكلاسيكيين فهمه والتعامل معه. مدير الاستثمار الكلاسيكى يعتمد على تقييم القيمة الجوهرية للشركة من حيث الأصول وتطور الأرباح على مدى عدد من السنوات ويقوم بالاستثمار عندما يجد أن سعر السهم أقل من التقييم الذى توصل له. فى المقابل، مدير رأس المال المخاطر هو الذى قام بالاستثمار فى شركة مثل فيس بوك مثلا وهى لم يكن لديها أى عائد. وفيسبوك مثال ناجح يقابله العديد من الأمثلة الفاشلة كما سنرى بعد قليل.
ابتدع مستثمرو رأس المال المخاطر تعبيرا لوصف الشركات الكبرى التى فى محافظ استثمارهم وهو «الحصان وحيد القرن» Unicorn وهو حيوان خرافى. هى شركات تعدى تقييمها المليار دولار وأصبحت شركات كبيرة وقوية فى مجالها وغالبا ما تكون أحدثت تغييرا كبيرا فى القطاع الذى تعمل به وأطلقوا لهم تعبيرا آخر يعبر عن ذلك وهو Disruptors. وما يحدث عادة أن تقييم الشركة يزيد مع الوقت وفى النهاية يكون شبه مستحيل الخروج من الاستثمار سوى ببيع الشركة لمستثمر رئيسى غالبا يكون منافسا لها أو بطرحها فى البورصة فى ما يسمى بطروحات أولية IPO. وماذا يعنى عندما يصبح فشل الطروحات الأولية لهذه الشركات شيئا معتادا كما حدث مؤخرا؟ معناه أن الفقاعة بدأت فى الانفجار كما أوضحنا، عانت منظومة رأس المال المخاطر مؤخرا من اخفاقات عديدة منها هبوط سعر شركة أوبر وليفت تحت سعر الطرح بفترة قصيرة بعد الطرح. كذلك فشل طرح شركة وى وورك لتملك وإيجار المكاتب بسبب اعتراض المستثمرين على التقييم وطريقة إدارة الشركة. وتسبب ذلك فى إحراج أكبر صندوق رأس مال مخاطر فى العالم وهو سوفت بانك اليابانى وهى الشركة التى تعد من أكبر الداعمين لأوبر ووى وورك. فى اجتماع الأسبوع الماضى فى وادى السيليكون الأمريكى وهو معمل تفريخ الشركات وصناديق الاستثمار، حاول كبار المستثمرين ورواد الأعمال ايجاد حل فى أعقاب فشل الطروحات الأخيرة وهو ما يهدد بالتأثير على استثماراتهم وتقييمها. الحل الذى أوجدوه هو أنهم سيلجأون لعمل قيد مباشر للشركات فى البورصة بدلا من الطرح الأولى. بمعنى آخر، سيظل هيكل ملكية الشركة كما هو بدون طرح لمستثمرى التجزئة ولكن سيكون السهم متداولا فى البورصة. توقعى لهذا الحل أن يفشل. الصناديق تراهن أن المشكلة هى أن الطرح الأولى يحاول التخلص من كم كبير من الأسهم فجأة مما يؤثر على توازن العرض والطلب للسهم. توقعى لفشل هذه التجربة سببه أن هبوط أسعار الأسهم ليس كما يقولون نتيجة لقوى العرض والطلب ولكنه وعى مديرى الاستثمار بطرق التقييم السليمة مما يدفع سعر السهم لقيمته العادلة التى غالبا تكون أقل بكثير من تقييم الطرح. عموما يبدو أنه سيكون لنا تجربة قريبا مع القيد المباشر بدلا من الطرح العام مع قيد شركة اير بى ان بى والتى غيرت وجه السياحة الفندقية للأبد.
لرأس المال المخاطر مميزات متعددة فهو كان سببا مباشرا فى دعم قصص نجاح غيرت وجه العالم. هو بالفعل آلية عبقرية لدعم واطلاق الطاقات المبدعة. قصص النجاح تكون أرقامها غير معقولة فليس من غير المعتاد أن نرى استثمارا بدأ بعدة آلاف من الدولارات يصل لمئات الملايين فى خلال سنوات قليلة. ولكن، مقابل كل قصة نجاح هناك عشرات من قصص الفشل الذى يسببه تقييمات مبالغ فيها لشركات خاسرة تقوم على وعد بتحقيق أرباح فى يوم ما أو فى بعض الحالات حتى بدون هذا الوعد. تقييمات تعتمد على دائرة استثمار مغلقة تفتقر الشفافية التى تتوفر فى الأسواق المفتوحة وتعتمد على الشخص صاحب الرؤية وليس على منظومة متكاملة.
رأيى أن مثل الفقاعات السابقة التى انفجرت وتركت وراءها قطاعات قوية ولكن تخضع لطرق تقييم عقلانية، فرأس المال المخاطر تقترب من هذه المرحلة وسيبقى لنا بعد انفجار هذه الفقاعة أو تصحيحها قطاع استثمار يهتم أكثر بتنقيد الفكرة monetization، متحفظ أكثر فى تقييماته، مستمر فى لعب دوره كقاطرة للإبداع والتطور ويقدم أفكارا وأسسا جديدة لبناء اقتصاد جديد. أعطى مثالا على ذلك فكرة «الأوبرة» Uberization وهى فكرة اقتصاد المثيلين Peer to peer مع مسهل للخدمة فى المنتصف. هى فكرة ثورية غيرت وستغير وجه قطاعات متعددة. فكرة ما زالت فى مراحل تطورها الأولية ومازالت الحكومات تكتشف كيف ستتعامل مع هذه الفكرة وكيف ستنظمها. هى قفزة لم تكن ممكنة بدون رأس المال المخاطر.
قد أبدو أحيانا وكأنى أهاجم فكر رأس المال المخاطر ولكن الحقيقة أنى أرى أنه رغم عيوبه فهو له مميزات للاقتصاد تتعدى العيوب بمراحل، فإذا دخل فى مرحلة تصحيح للفقاعة فمن الممكن أن يصبح ركيزة أساسية للاقتصادات الصغيرة والناشئة. بل أضيف أن توقعى أن مستقبل رأس المال المخاطر سيكون فى الدول النامية التى تحتاج لحل مشكلات لا حصر لها. هى فرصة يتوجب علينا فى بلادنا الاهتمام بها وتشجيعها وتنظيمها وخلق البيئة المشجعة لتطورها. رأس المال المخاطر بالرغم من أنه عالى المخاطرة فهو الأقدر على خلق أفكار وشركات تستطيع عمل نقلة نوعية فى الاقتصادات المحلية كمكمل للصناعات والقطاعات التقليدية وهو الأقدر على احداث تأثير ايجابى مضاعف على المجتمع تبقى الاقتصادات الناشئة فى أمس الحاجة له.