يقال إن دمشق كانت تدخل السنة الجديدة باللون الأبيض، أى أن الأجيال التى سبقتنى وسبقت التغيير المناخى شهدت شتاءات ثلجية، فبدأت السنوات الجديدة فعلا باللون الأبيض، وهو رمز لسنة يأملون ألا تنغصها المشاكل ولا تشوبها الحروب. وإن لم يغط الثلج دمشق فى مطلع السنة، فكان يستعيض أهل المدينة عنه بأى طعام لونه أبيض، فتنهمك البيوت بصنع «الرز بالحليب» أو المهلبية، أو أى طبق أساسه اللون الأبيض إما بالحليب أو باللبن الزبادى.
***
سنة بيضاء أتمناها لمن حولى، حتى من لا أستسيغهم فأفضل أن تكون سنتهم بيضاء حتى لا يزعجونى، تماما كما يقول المثل القديم «الله يسعده ويبعده» أى أننى لا أتمنى الشر لأحد إنما لا أريد من يزعجنى من حولى.
***
سنة بيضاء ودرب أخضر، أحب عبارة «دربك أخضر» كثيرا حين تقال لمن يستعدون لرحلة على الأغلب شاقة أو رحلة إلى حياة جديدة فى مكان بعيد. الدرب الأخضر طريق سهل، على طرفيه تنبت أشجار فواكه وزهور، طريق تحميه شمس الشتاء الدافئة ويسير بيسر نحو الحياة الجديدة.
***
سنة بيضاء ودرب أخضر وخرزة زرقاء أعلقها حول رقبة من أحب لتقيهم من العين والحسد. كنت كثيرا ما أتخيل شعاعا ينطلق من عين حسودة نحو أحد أفراد عائلتى فيرتطم بالخرزة. نعم أنا أسمح لنفسى ببعض الخرافات أحيانا وأحبها.
***
فى السنة الجديدة أعلق تعويذة على باب البيت، كف فاطمة يبدو أنها ستوقف الكرة وتمنعه من الدخول. أحصن المنزل من الخارج كمن يطليه بمادة عازلة. فى الداخل أبدأ عملية موسمية للتأكيد أن دمشق فى قلب المنزل أين ذهبت: مربى النارنج تلك البرتقالة المرة التى تظلل شجرتها حدائق البيوت الشامية.
***
للأمانة أنا لم أتربَ فى بيت دمشقى كذلك الذى نراه فى الكتب وعلى شاشات التلفزيون، حتى لو سكنت جدتى واحدا من هذه البيوت وكنت أزورها فيه وأتذمر من قلة عمليته بالنسبة للشقق الحديثة. كنت أمضى وقتا طويلا فى بيت جدتى بينما تقوم بطقوس دمشق كاملة لم أعرف حينها أنها طقوس، ثم صرت أمارسها فى شقق حديثة فى بلاد بعيدة. مربى النارنج مثلا حدث موسمى يبدأ بعملية طويلة من تحلية قشور البرتقال لإخراج المرار منها، حتى أننى كنت أتساءل لماذا لا يكتفى أهل دمشق بمربى البرتقال العادى بدل أن يمضوا أياما ثلاثة يضعون القشر المر فى ماء باردة ليزيلوا المرار عنها.
***
لا يهم، هى طقوس مقدسة أو هكذا أصبحت بنظرى، طقوس ترثها الإناث ممن سبقنهن فى العائلة. رائحة البرتقال فى شقتى الحديثة تصبح التعويذة السنوية التى تتطاير من المطبخ إلى غرف البيت وحتى درج العمارة. يتأفف أطفالى قليلا من رائحة البرتقال وقشوره التى تغطى معظم مساحات العمل فى المطبخ.
***
أظن أن أطفالى تعودوا على بعض المسلمات الشامية، كالمربى والبرغل بدل الأرز أحيانا وطبخ اللحم أو الدجاج فى لبن الزبادى المغلى فى الشتاء. لم آخذ قرارا واعيا فى بدء ترحالى بممارسة طقوس تعلمتها من جدتى ثم رأيت أمى تكررها. أظن أن الطقوس نمت فى داخلى مع امتداد سنوات الترحال. ثم أظن أنها ظهرت بقوة أكبر مع إنجابى لأطفال نصفهم سورى ولا يزورون دمشق إنما تشربوها وتشربوا لهجتها وعاداتها عن بعد. أظن أيضا أن الحالة ازدادت مع حياتى فى مدن قريبة من دمشق كالقاهرة أو عمان، حيث ثمة الكثير من التقاطعات والمقارنات التى حتمت على أن أصر أنهما، أى القاهرة وعمان، ليستا دمشق، رغم احتضان المدينتين لى ولعائلتى دون سؤال عن أصلى بل بالعكس، مع ترحيب بلهجتى ولهجتهم.
***
هى سنة بيضاء تعطرها رائحة ماء زهر البرتقال حين أرش بعضه فى الطعام، يتذمر أطفالى فهم، كمعظم الأطفال، يستغربون نكهة ماء الزهر، لكنى لا أتراجع. هى خرزة زرقاء أضعها عند مدخل البيت فيسألنى زوجى إن كنت فعلا أؤمن بقواها الخارقة فلا أرد. أنا لا أناقش مسلمات أريدها أن تبقى من حولى ولا أريد أن أسمع أسئلة منطقية حولها.
***
هى قفزة من يوم إلى يوم آخر تمنيت فيه لمن حولى سنة خير وصحة وسعادة، ثم قررت أن أطبخ فيها رزا بحليب وأبدأ عملية صنع المربى، فمن ذا الذى سوف يعارضنى حين أؤكد أن طبقا من الحلوى أجتمع حوله مع أصدقاء سوف يعطينى قدرا من الصحة والسعادة؟
***
سنة بيضاء أرش على وجهها ماء الزهر ثم أفرط حبوب الرمان فوقها لتلمع وكأنها غمزات من شخص أحبه. هى أيام أسمح لنفسى فيها أن أعيد تصورى للعالم فأراه كما كنت أراه فى طفولتى: بيت دمشقى تتوسطه حديقة، وجدة تغلى السكر بالماء لتضع فيه قشر البرتقال، بينما تحرك شوربة العدس فى قدر آخر وتغرف لى منه طبقا. أحاول أن أرفض الشوربة فلا تسمعنى: هذه من المسلمات! الشوربة على رائحة البرتقال فى بداية سنة «تبيضها» جدتى بالمهلبية. ولماذا التشكيك؟ سنة بيضاء على الجميع.
كاتبة سورية