يقوم التآخى بين بعض الأصدقاء حتى تكون علاقتهم أشبه أو أقوى من علاقة الشقيق بشقيقه، تتناغم أرواحهم ويصفو قلب كل منهم للآخر، وتترابط نفوسهم حتى كأنهما شخصان فى قلب وروح واحدة، وإذا كان هذا يحدث بين الأخلاء والصالحين والأصفياء فإن الأنبياء أولى بذلك، فالأنبياء سلسلة مترابطة متوادة متحابة، ربهم واحد، رسالتهم العامة واحدة، الوحى تنزل عليهم جميعا، جمعهم الإيمان وهداية الخلائق وإيثار الحق على الخلق.
وقد عبر الرسول «صلى الله عليه وسلم» عن هذا المعنى بقوله «الأنبياءُ إخوَةٌ لعَلَّاتٍ دِينُهم واحِدٌ، وأُمَّهاتُهم شَتَّى»وتعبير لعلات مصطلح غريب على مسامعنا نتيجة بعدنا عن العربية، ولكنه معروف عند قدماء العرب، والعلات هى الضرائر، فهم لأب واحد أى رسالتهم العامة واحدة وهى تعبيد الناس لربهم وربط الخلق بالحق، أما أمهاتهم فشتى أى رسالتهم التفصيلية تختلف من نبى لآخر بحسب الأدواء والأمراض التى تشيع فى أقوامهم فكلهم جاء برسالة واحدة «يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ» وجاءوا بكلمة واحدة هى «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا» ولكنهم اختلفوا فى تفاصيل الرسالة أو فى الشرائع التى تناسب زمانهم ومكانهم وأقوامهم.
فقد جاء هود فوجد الداء الأساسى فى قومه هو الطغيان والاستبداد فهتف فيهم «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» لم يبتعد عن دانهم ولم يتحدث إلا فى مرضهم ومشكلاتهم.
أما لوط مثلا فوجد قومه مخنثين جبناء يفعلون الفاحشة ويأتون الذكران من العالمين ويكرهون الزواج الحلال، وهم أول من سن هذه الفاحشة على وجه الأرض، فلا يعقل أن يحدثهم عن الطغيان والجبروت وهم مخنثون فقدوا رجولتهم ونخوتهم فكان يدعوهم «أتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ».
أما سيدنا شعيب خطيب الأنبياء فوجد قومه فى غنى ويسر اقتصادى ولكن الفساد الاقتصادى لا يخلو منه مكان وتطفيف المكيال والميزان هو ديدنهم فقال «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا».
وهكذا تترابط السلسلة المباركة ولكن هناك علاقات بين بعض الأنبياء أوثق من هذه العلاقة العامة، فهناك علاقة خاصة بين محمد والمسيح عليهما السلام أوضحها الرسول «صلى الله عليه وسلم» وهو يعرف نفسه «أَنَا دَعْوَةُ أَبِى إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى».
وقد جاءت هذه البشرى مفصلة فى القرآن على لسان عيسى عليه السلام «وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ» كما أن محمد وعيسى عليهما السلام يأتيان وراء بعضهما ولذا قال النبى «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ».
وهناك علاقة خاصة بين موسى وعيسى عليهما السلام، فقد جاء عيسى ليتم الناموس لا لينقضه، والناموس هو الشريعة التى أتى بها موسى عليه السلام، فقد جاء عيسى ليتم شريعة موسى لا لينقضها أو يهدمها.
فما جاء رسول إلا ليتم رسالة من قبله، ولذلك شبه النبى الكريم رسالة الأنبياء ببناء جميل يطوف الناس حوله فى إعجاب وذهول إلا موضع لبنة فيه، ويقول عن نفسه «أَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ».
أما العلاقة الأكثر خصوصية والأدق فى التشابه والتماثل فكانت بين آدم وعيسى عليهما السلام، وقد نص القرآن على هذا التماثل فى قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» ولم يشبه الله عيسى بأحد فى القرآن سوى آدم، والآية تربط بينهما ربطا شديدا، والمتأمل فى القرآن يجد أن هناك تقاربا بل تماثلا كبيرا بين النبيين العظيمين.
فقد ذكر اسم آدم فى القرآن 25 مرة، وذكر اسم عيسى فى القرآن 25 مرة كذلك، وآدم عليه السلام نزل من السماء إلى الأرض، أما عيسى عليه السلام فسينزل من السماء إلى الأرض أيضا فى آخر الزمان، وآدم خلق بمعجزة فقد جاء خلقه من غير أب ولا أم، خلقه الله من طين ثم قال له كن فيكون، وعيسى خلقه الله بمعجزة أيضا فقد ولد من غير أب وبـ «كن فيكون» أيضا.
وحينما نرتب الـ 25 آية التى ذكر فيها آدم والآيات الـ 25 التى ذكر فيها عيسى نجد أن الآية التى ذكرتهما معا «إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» تأتى فى الترتيب السابع فى كلا العمودين والترتيبين، وهذا يمثل قمة التماثيل والتطابق القرآنى المعجز، فهذه الآية وضعت فى نفس الترتيب فى عمودى آيات آدم، آيات عيسى عليهم السلام.
ويفسر البعض لماذا وضعت فى الترتيب السابع بأن مجموع أحرف اسم «آدم» «وعيسى» هو سبعة أرقام، حتى كلمات «مَثَلَ عِيسَىٰ» «وكَمَثَلِ آدَمَ» «وكُن فَيَكُونُ» كلها تساوى الرقم 7 أيضا، وهذا فيه من التطابق والتماثل العجيب بين النبيين العظيمين آدم وعيسى.