وفرت الأيام القليلة الأولى من العام 2016، دليلا جديدا على ديناميكية التغيير فى ميزان القوى الإقليمى. ويشكل تصاعد التوتر بين المملكة العربية السعودية وإيران المظهر الأبرز فى دراما أكبر تتكشف الآن عبر مشهد جغرافى واسع يمتد من اليمن إلى سورية ومن الخليج العربى إلى ليبيا.
إن أداة التحليل التقليدية للمدرسة الواقعية التى تستند إلى مصلحة الدولة (raison d’état) أصبحت إلى حد كبير غير ذات صلة بحكم انهيار الدول فى المنطقة. ومن هنا ضرورة رسم خريطة الصراعات الإقليمية ــ التى أحدثت دمارا هائلا وسفك دماء وحرمانا ونزوحا جماعيا وتدخلا أجنبيا – بما ينسجم مع خطوط الصدع الأيديولوجية التى تفصل بين المجموعات الساعية للهيمنة على مستقبل المنطقة.
من السهل بما فيه الكفاية عندما يقدم السعوديون على إعدام رجل دين شيعى وتثور إيران بغضب مذهبى، تبسيط الغليان الحالى برده إلى الانقسام الطائفى القديم بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، ومع ذلك، تستحق المواجهة الحالية تحليلا معمقا للفروق الدقيقة، ومنظورا يتجنب طلى جميع المسلمين أو جميع الشيعة أو السنة بالفرشاة عينها.
إن الخصومات المستعرة التى تتسم بهذا القدر من العنف فى مختلف أنحاء المنطقة، تحمل بصمة حتميات أيديولوجية حديثة، على الرغم من تشابكها مع موضوعات تقليدية. ويمكن أن نميز فى منطقة الشرق الأوسط بتعريفها الواسع الذى يشمل شمال أفريقيا والمشرق «العربى» وحوض البحر الأحمر والخليج ليس معسكرين طائفيين فقط، بل أربعة معسكرات أيديولوجية.
وقد نستطيع إضافة معسكر خامس: «أنظمة» اشتراكية قومية علمانية هيمنت سابقا على مجال السياسة العربية، ومعسكر سادس: الليبراليون الشباب الواعدون الذين لعبوا دورا بارزا فى إطلاق الانتفاضة السياسية فى المقام الأول. لكن هذين المعسكرين هما قوى الماضى، و«ربما» قوى المستقبل، على التوالى. وليسا فى موضع تنافس على السلطة فى الوقت الحاضر».
من بين القوى المتنازعة، هناك ثلاثة معسكرات أو مجموعات تنتمى إلى فئة عامة تضم الشموليين الإسلاميين: إيران ووكلاؤها وحلفاؤها؛ الجهاديون السلفيون وعلى رأسهم ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية»؛ وجماعة الإخوان المسلمين فى تجلياتها المختلفة ومن ضمنها حركة «حماس» المدعومة من قطر وتركيا أردوغان.
المعسكر الرابع، وتعريفه غير واضح، يجمع كل أولئك الذين يخشون ويقاومون صعود المعسكرات الثلاثة الأولى. ويسعنا تسمية هذه الجهات الفاعلة «قوى الاستقرار»، واعتبار إسرائيل لاعبا مهما وفاعلا ضمن هذا المعسكر.
وما نشهده حاليا هو تبدل فى ميزان القوى المعقد بين هذه المعسكرات الأربعة. وهى أساسا تتقاتل فيما بينها، مع أنها ترى أنه من الممكن أحيانا أن تتعاون فى ما بينها متجاوزة الانقسام الأيديولوجى، ضد ما تعتبره أعداء أشد خطورة.
***
إن الحد القاطع لتصاعد المواجهة الإيرانية – السعودية يعكس حقيقة أن المعسكر الإيرانى من جهة، وقوى الاستقرار من جهة ثانية، تنظر إلى بعضها بعضا بصفة أن كل منها يشكل التحدى الرئيسى للآخر، مع اعتبار ما يسمى «الدولة الإسلامية» وجماعة «الإخوان المسلمين» عدوا من الدرجة الثانية.
ما الذى حدث؟ بادئ ذى بدء، تراجع معسكر «الإخوان المسلمين» بشكل حاد، مما قلل فرصه وكبح طموحاته. «أملت تركيا أن يصبح حزب العدالة والتنمية النموذج السياسى السائد لموجة «الإخوان المسلمين» الصاعدة». قبضة السيسى على السلطة فى مصر تبدو ثابتة على الرغم من مشاكل اقتصادية مستمرة، وهجمات إرهابية متكررة، وشكوك جدية فى مصداقية الانتخابات التشريعية الأخيرة. وتبدو فرص عودة جماعة الإخوان إلى السلطة، ضئيلة جدا. وفى بلد آخر، استعاد حزب «حركة النهضة» التونسى مكانة أكبر حزب فى البرلمان. لكن حتى الآن، لا يبدو أن لديه رغبة شديدة فى الاستيلاء على السلطة مرة أخرى.
ولا تزال حركة «حماس» بعد الضربات الموجعة التى تلقتها فى العام 2014، حريصة على تجنب تجربة خوض معركة مع إسرائيل فى قطاع غزة. حزب الإخوان الأردنى تعرض للانشقاق. فصائل الإخوان السورية تهمشت. وعلى امتداد الخليج، سحبت مؤلفات حسن البنا وسيد قطب وأبى الأعلى المودودى من المكتبات بوصفها هدامة. وتطول القائمة أكثر. وقصارى القول أنه منذ صيف 2013، انحسرت حظوظ جماعة الإخوان، وصار من المشكوك فيه جدوى كونها «حصانا قويا» يمكن ركوبه للوصول إلى السلطة. لكن هذا الكلام لا ينسحب على تنظيم «داعش».
***
قد لا يكون التدخل الروسى فى سوريا قادرا على تغيير الأمور مثلما يدعى، لكنه زاد بالفعل الدافع الغربى لفعل المزيد، كما حدث بعد رعب باريس. ولكن الحرب ضد تنظيم «داعش» لا تزال قوية بما فيه الكفاية، وينبغى أن تكون مركزة وهادفة أكثر على المستويين العملى والاستراتيجى، لكنها كافية لضمان تآكل «خلافة» أبو بكر البغدادى بحيث لا تستطيع فى نهاية المطاف أن تتنافس فى أعلى مستوى من مستويات الصراع على السلطة.
ويبدو أن هذا يضع النظام الإيرانى وشبكته الواسعة من الوكلاء والحلفاء والعملاء، فى موقع يخوله تحويل سنوات الاضطراب إلى مصلحته. وبسبب تحمل الروس جزءا من عبء إنقاذ النظام من الانهيار فى ما تبقى من سوريا، بات المعسكر الإيرانى طليقا فى استئناف مسيرة الهيمنة الإقليمية. وهذا كان هو الوضع حتى قبل رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران وقبل بدء تدفق الأموال إلى طهران.
ولنأخذ فى الاعتبار التطورات التالية: تباهى أحد قادة الحرس الثورى الإيرانى، بأن الحرس يسيطرون بالفعل على أربع عواصم عربيةــ بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاءــ وعلى ممرين بحريين دوليين هما مضيق هرمز وباب المندب. ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة المخيفة شبكة من المخربين فى الساحل الشرقى لشبه الجزيرة العربية، الذين كانت أنشطتهم فى صلب رد الفعل السعودى العنيف.
وعلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط هناك قبضة إيران المحكمة على لبنان من خلال حزب الله المملوك بالكامل لإيران، وسيطرتها على ما بقى من سورية الأسد، كما تمتلك إيران وكيلا فى قطاع غزة معروفا باسم «الجهاد الإسلامى الفلسطينى»، فضلا عن علاقة تعاون مع حركة «حماس» «برغم انتمائها لمعسكر «الإخوان المسلمين».
أما إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما التى تعتبر الاتفاق النووى إرثا استراتيجيا رئيسيا، فهى تدعم شفهيا «بالكاد» ضرورة مواجهة طموحات إيران الإقليمية. وبما أن التركيز الدولى يتحول باتجاه محاربة تنظيم «داعش»، فليس من المستغرب أن يتكون انطباع لدى السعوديين وآخرين فى المنطقة بأن أوباما وقادة غربيين آخرين مستعدون لرؤية إيران كجزء من الحل وليس كجزء رئيسى من المشكلة.
فبعد كل شىء، لعبت ميليشيات شيعية متدربة على يد الإيرانيين دورا ملحوظا فى المعركة ضد التنظيم فى العراق، وأبدت طهران استعدادا لعزف أنغام واشنطن فى كل ما يتعلق بمحاربة «إرهابيين».
ولعل هذا العامل أكثر من أى عامل آخر، أى الشعور بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد القوة العظمى التى يمكن الاعتماد عليها لدعم قوى الاستقرار فى المنطقة، هو الذى يشمل القوة الدافعة للديناميكية الجديدة فى «لعبة المعسكرات».
لقد أنشأت المملكة العربية السعودية بالفعل تحالفا واسعا يضم قوى سنية ملتزمة محاربة الإرهاب. وهى تقود حرب تحالف مستمرة ووحشية غالبا، ضد انتفاضة الحوثيين فى اليمن «التى تمثل فى نظر الرياض خنجرا شيعيا يستهدف مكانين مقدسين: مكة والمدينة فى الحجاز، المنطقة الغربية من العربية السعودية ومهد الإسلام».
وقد استُخدمت حوافز «وضغوط» بما فيه الكفاية للتأثير على نظام البشير فى السودان وحمله فى النهاية على اتخاذ قرار دراماتيكى بالانشقاق عن المعسكر الإيرانى والانضمام إلى صفوف التحالف السعودى فى اليمن. وقطع السودانيون أسوة بدول عربية أخرى، علاقاتهم برعاتهم السابقين فى طهران.
والأهم من ذلك، أبدت تركيا عقب تصاعد الاحتكاك مع روسيا بسبب سوريا واضطرارها لمراجعة أولوياتها من جراء النتائج الضعيفة لسياساتها السابقة، اهتماما بعلاقة أوثق مع السعوديين ومعسكرهم. وفى هذا السياق، فإن طرح أنقرة علنا اقتراح تحسين العلاقات مع إسرائيل، أمر لافت للاهتمام.
لقد أصبح هذا الواقع الجديد جليا إلى حد إجبار كل من تركيا وقطر على تدعيم تعاونهما الثنائى، الذى يشمل خططا غير مسبوقة لتمركز قوات تركية فى قطر، ولحملهما على إعادة النظر بأولوياتهما فى اللعبة الإقليمية.
***
من السابق لأوانه وليس من الحكمة فى هذه المرحلة، توقع بروز معسكر استقرار متماسك وقوى يعمل بتعاون وثيق. فهناك تباين فى موقف السعودية ومصر من المسألة السورية. والعلاقة الإسرائيلية مع سلطة عباس فى رام الله، على الرغم من النظرة المشتركة لتحديات إقليمية أوسع، شهدت انتكاسة خطيرة فى الأشهر الأخيرة بعد أن تعلق الفلسطينيون بموجة إرهاب كأداة سياسية. كما أن تحول تركيا لم ينضج بعد، ونيات أردوغان «والتزامه المتواصل تجاه حركة «حماس» لا تزال تثير شكوكا فى القدس والقاهرة.
لكن نظرا لإمكانية صعود القوة الإيرانية، فإن تحالفات بدت بعيدة الوقوع، قد تصبح حجارة لبناء واقع جديد. وهذا ما جرى بالفعل فى شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تتلاحم الآن مصالح كل من مصر والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص، فضلا عن إيطاليا وقوى أوروبية أخرى بدأت تدرك خطورة الوضع الحالى.