ينسب إلى الكاتب العملاق نجيب محفوظ تعريفه للوطن على أنه المكان الذى تنتهى فيه كل محاولات المرء للهروب. أتخيل جملة نجيب محفوظ تلك وهى ترتطم على ملايين المحاولات للهجرة، تصفع كلماته جانب قارب يصارع الموج، تلتف كلمة «هروب» حول أحلام تحمل أصحابها إلى الجانب الآخر من السور، ألا يقال إن العشب يبدو دوما أكثر نضارة على الطرف الآخر من السياج؟
***
لم يشهد العالم قط موجات هجرة كما يشهدها اليوم، ولم تتحرك كتل من البشر عبر الحدود بطرق شرعية أو غير شرعية كما تتحرك منذ بضع سنوات. أصبح حديث الهجرة وما يليه من رعب من الآخر المختلف موضوع كل الساعات، حتى بدا للكثيرين أن بقاءهم فى أى مكان هو وضع عابر ومكوثهم فيه استثنائى.
***
يتحدث الكثيرون، خصوصا من هم أكثر تقدما فى السن، عن التغييرات التى طرأت على التركيبة الاجتماعية والعائلية، فيرثون البيوت الكبيرة التى يقولون إنها كانت تأوى عدة أجيال، ويتحسرون على ساعات كان يمضيها أطفال الأسرة الممتدة فى اللعب قرب المنزل فى شوارع كانت أضيق وأكثر ألفة، كيف لا، وقد كان سكان الحى الواحد، بحسب مزاعمهم، يعيشون حياة المجموعة فيتشاركون الأفراح والهموم؟
***
من ذا الذى لا يحاول الهروب، إن لم يكن من بلده فمن حياته، من مجتمعه، من أسرته أو من واقع لا يشعر بأنه ما زال قادرا على التحكم به؟ ربما رحلت فعلا أيام كانت تسدل فيها الأحلام كلماتها وصورها على أمنيات بحياة مريحة فى مكان مألوف وسط وجوه سهل التعرف عليها. ربما لم يعد من الممكن اليوم أن يضرب أحدنا أطناب بيته فى أرض نمت فيها جذور أسلافه ويعتبر ذلك سببا كافيا لبقائه فيها.
***
جملة «أركض، فورست، أركض» مأخوذة من فيلم فورست جامب الأمريكى الذى حصد جوائز كثيرة، والذى يمضى فيه البطل جل الفيلم يركض خوفا من سوء قد يصيبه. فى عالم بات يتزاحم فيه المهاجرون أمام أبواب موصدة، أتساءل عن الوطن الذى لا أحاول أن أهرب منه. فى أحد أجمل مقاطع المسرحية السورية كاسك يا وطن، يصرخ بطل المسرحية «المشكلة إنه الوطن ما ببعد عنى، بضل عايش فيى من جوا وين بدى أهرب منه؟».
***
أتخيل فورست جامب يجرى والوطن يجرى خلفه مادا يديه باتجاه عنقه. يتعب فورست فيبطئ من خطاه وتلف اليدان حول رقبته. أو بالأحرى أتخيل نفسى فى هذا المشهد، فى محاولاتى المستمرة رغم السنوات لفهم علاقتى المعقدة مع الانتماء إلى مكان. يبدو لى أن نسبة كبيرة ممن يتركون بلادهم سواء بشكل طوعى أو بسبب الاضطهاد، إنما يغلفون قطعة مما يحبونه فى أوطانهم بقماشة من القطيفة الزرقاء ويحافظون عليها فى مكان آمن طوال فترة ابتعادهم. قد ينسون وجودها ثم يفتحون القماشة فى ساعة تضغط فيها يدى الحنين على قلوبهم حتى يكادوا يختنقون. يفتحون الصرة ويمسكون بقطعة من وطنهم فى يدهم، يحركونها فى الضوء كما يحرك نحات منحوتة صنعها من الزجاج فتتراقص على سطحها الألوان تعكسها أشعة الشمس.
***
ها هو وطنى إذ أحمله معى ملفوفا بعناية بالمخمل الأزرق، أضعه فى كل بيت وأحمله معى فى كل ترحال. أستمد من محيطى الجديد طاقة أحاول أن أتعرف عليها بروية، أتعلم أسماء شوارع دخيلة على حياتى وأرى عيونا وتعابير أحاول أن أتأقلم معها. أراقب على مجتمعات جديدة لها أسرار ومفاتيح وأغانٍ، لكن فى بيتى تتصدر قطعة الوطن خاصتى المكان. أفك القماشة برفق فتتناثر كلمات من هناك، أحركها فتقفز ألوان لا تنتمى سوى للوطن.
***
للأمانة أنا لست ممن يجلسون بالساعات ينفطر قلبهم شوقا على أماكن تركوها، إنما ينكسر قلبى ألف مرة فى ثانية واحدة أشتاق فيها إلى تفصيل محدد فأحاول أن أستحضر مشهدا احتواه. هى نفس الثانية التى أفك فيها القماش عن وطن نحته على قطعة الزجاج، طرفها حاد يجرحنى وطرفها الآخر ناعم تحت يدى. تماما كما هى علاقتى بالوطن، رغم تنقلى الدائم إلا أننى فى وقت الضيق بحاجة إلى لهجة، نظرة، تعبير من هناك أبحث عنه هنا.
***
يقال إن الوطن هو ما نخلقه داخل بيوتنا، وأظن أن ذلك صحيح إلى حد كبير، فكما تحمل السلحفاة بيتها على ظهرها، أنا أدخل إلى الوطن كلما دخلت إلى بيتى، أينما كان. قد لا أشتاق إلى مكان بتضاريسه وحدوده الجغرافية بقدر شوقى إلى تفاصيل أصبحت، فى ذاكرتى، هى ذلك المكان. لكنى وحتى الساعة لم أتوقف عن محاولتى للهروب، رغم أننى أهرب وفى يدى تلك القطعة فى القطيفة الزرقاء كل مرة. داخل البيت، حيث أجد من أحب، أرمى مرساتى وأغلق الباب. أحكى ما يحلو لى من القصص وأحبكها على رائحة البن وماء الزهر. وحدها تلك الرائحة قادرة على ربطى بالوطن، هى وثرثرة مسائية تتناول السياسة وقصص حب من أحب، هذه كلها، داخل بيت مرمى فى أى مكان، هى الوطن الذى لا أهرب منه.
كاتبة سورية