كان يردد «أحببت الخير للخير وكرهت الشر للشر، وهذا وحده يكفينى فى التقدم به إلى الله».
ألف قرابة مائتى كتاب زاخرة بالفكر الإسلامى الرصين، حارب من خلالها الجمود الفكرى والفقهى والعلمانية المتطرفة والتغريب والإرهاب والتطرف الدينى والرأسمالية المتوحشة.
نعاه الأزهر الشريف مادحا: «فقيد الأزهر، والأمة العربية والإسلامية بعلمه وفكره الوسطى فى تبليغ رسالة الله والدفاع عن سماحة الإسلام ووسطيته»، وأثنى الأزهر على مصنفاته: «المملوءة علمًا وحكمة ومعرفة ساهمت فى إثراء الفكر الإسلامى».
يعد من أخلص تلاميذ رشيد رضا والأفغانى ومحمد عبده والغزالى، وهو الذى نشر مدارسهم وأحيا ذكراهم، وقاد تيار التجديد فى الفكر الإسلامى سنوات طوال، وإليكم مختصرا لفكره يناسب مساحة المقال:
يرى د. عمارة أن اعتقاد المسلمين خيرية أمتهم مشروط بتحقيق شروط الخيرية وهى شروط لا يعتقدون احتكارهم لها.
دعا إلى التجديد الصحيح ورفض التقليد الأعمى للسلف تارة أو الغرب أخرى، وكان يرى أن ذلك كله من نتائج تخلف مجتمعاتنا، فالأزمة الحقيقة هى توقف العقل المسلم عن الإبداع لحل أزمات واقعة واشتغاله فقط بتفاصيل وجزئيات الشعائر والشكليات الدينية.
وكان د. عمارة يؤمن بنظرية «خصوصية العصر»، وتعنى تمايز العصور والأزمان فيما بينها، ويرى أن غياب مراعاة «خصوصية العصر» سيوقعنا مباشرة فى النقل والتقليد والمحاكاة والاكتفاء بنماذج السلف فى حل مشكلات التاريخ، وهذا سيعطل الإبداع وتجديد العقل الذى سيرى فى النقل والتقليد أخف كلفة من معاناة الإبداع، ويحل الماضى محل الحاضر.
رفض تقليد الغرب الذى أحالنا إلى مستوردين ومستهلكين لما عنده، فلا اجتهاد مع النص الأوروبى أو الغربى وعلينا أن نحيل ملكاتنا إلى الاستيداع.
كان يردد: «علينا ألا نطلب للواقع الراهن أو المستقبلى القوالب التراثية، ولكن نفعل ونشغل مقاصد الشريعة» وعللها: «لأنها الثوابت التى يجب أن تظل مجسدة لمعنى إسلامية الفكر والتفكير والحياة، وليس الجزئيات والتطبيقات والآليات التى هى تجارب سلف ارتبطت بواقع تغير، وعلل تبدلت، وأعراف تجاوزها التطور».
كان يرى أن «التغريب» خطر على الأمة؛ لأنه لا يثمر إبداعا حيث يحل «الآخر الحضارى» محل «الذات الحضارية».
عاب على الغرب أنه نقل إلينا المعنى العرقى العنصرى لـ«القومية» بدلا من المعنى الحضارى لها، فنقل قومياتنا من كونها «دوائر لغوية وثقافية وحضارية تحتضنها جامعة الإسلام»، ليحولها إلى نزاعات عرقية وعصبيات إثنية وألغام تُفَجر الصراعات، لنصيرَ فُسَيْفِساء ورقية يسهل احتواؤها، ويحولنا من أمة واحدة إلى أمم شتى، بأسُنا بيننا شديد.
ورفض نقل الثنائيات المتصارعة فى الغرب إلى بلادنا مثل «الله والإنسان، الدين والعلم، الدنيا والآخرة» فديننا وبلادنا ليست فيها هذه الصراعات الكاذبة.
وعاب إحلال العاميات واللهجات المحلية محل العربية الفصحى لفصل الواقع اللغوى عن القرآن العربى، وإحلال الفرنسية والانجليزية، لنتحول من أمة واحدة تجمعها لغة واحدة إلى أمم شتى غرباء لغرابة ألسنتنا.
كان يرى ضرورة التوازن المبدع بين حاكمية الله باستلهام القوانين من النصوص الشريعة وبين سلطة الأمة على الحاكم، فالحاكم مفوض من الأمة، وليس نائبا عن الله فى الأرض يحكم بما يريد، بل هو مسئول أمامها فى تحقيق ما يقيم حضارتها.
وكان يرى أن الدولة الإسلامية تختلف عن البابوية العنصرية «فهى ليست دولة دينية، فالأمة هى مصدر السلطات».
ودعا لإبداع نظام للحكم يحقق «سلطة الأمة» ونيابة الدولة عن الأمة دون أن تتغول الدولة على الدين بتأميمه، وعلى الأمة بتحجيمها، ودون أن تعزل الأمة الأرض عن السماء.
وأننا بحاجة إلى إبداع نظام اجتماعى يحقق أقصى الممكن من العدل الاجتماعى وتكافل الأمة البينى دون عدوان على الملكية الخاصة أو حوافز الإنسان للاختصاص والاستثمار.
وإلى فنون وآداب تحيى العربية وتحمل قيم الدين الخالدة لتهذب النفس الإنسانية وترفهها بلا مباشرة أو صراخ.
وكان يرى أن «مصطلح الأصولية»، بمعناه الغربى غريب عن الواقع الإسلامى مقحم عليه بقوة «العصف الإعلامى»؛ لأنه يعنى فى الغرب أهل الجمود بينما معناه فى الإسلام أهل التجديد والاجتهاد.
ودعا لإبداع نموذج يخصنا في «تحرير المرأة» بما يحقق لها المساواة فى الخلق والإنسانية والكرامة والتكليف والجزاء ودون تحويل الذكر إلى مخنث ولا الأنثى إلى مسترجلة ولا نشوب الصراعات بينهما أى مساواة الشقين المتكاملين «لا الندين المتنافرين».
وحارب العنف والإرهاب الذى هز استقرار مجتمعاتنا وجعل بأس المسلمين بينهم شديدا، وهو أول من نقد كتاب الفريضة الغائبة لتنظيم الجهاد، وأفكار كل الجماعات التى مارست العنف.
أما عن رأيه فى القضية الفلسطينية فكان يردد: «مشكلتنا ليست مع اليهودية كدين ولا مع التوراة وشريعتها ولا مع اليهود، مشكلتنا مع الذين يحتلون بلادنا ويغتصبون أرضنا، وعلينا أن نحول القضية الفلسطينية من قضية علمانية وطنية جغرافية إلى قضية عقيدة تخص كل مسلم على الأرض حتى تتحرر المقدسات».
وأنصف قاسم أمين ورآه مفكرا فصيحا سابقا لزمانه، وقال إنه دعا إلى تحرير المرأة بحق، وحقها فى التعلم والعيش بكرامة واستقلالية، ولم يدع إلى تبذلها وانحلالها.
بدأ د. محمد عمارة حياته منظّرا قويا للفكر الشيوعى ثم اتجه إلى الفكر الإسلامى وأصبح من تلاميذ الغزالى النجباء ليصبح من أعظم المفكرين الإسلاميين الذين يجمعون بين الواجب الشرعى والواقع العملى والدين والحياة والنص والعقل جمعا صحيحا.
ومما ساعد العلامة د. عمارة على التألق الفكرى ما يلى: سعة الدين الإسلامى نفسه، وتخلصه من التبعية للجماعات والأحزاب والتنظيمات، وكذلك تحرره من أعباء وقيود الوظيفة، وقوته فى الحق، وسفره إلى معظم بلاد العالم، وتتلمذه على أعظم أئمة الوسطية الإسلامية، فأصبح علامة على ترشيد العقل المسلم والعربى.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، مع خالص العزاء لأسرته ومحبيه.