كنت حين أسمع عبارة «يجب وضع قفازين للتعامل معه»، وهو مصطلح فرنسى يعنى أن التعامل مع شخص يجب ألا يكون تلقائيا، بل بالعكس، يحتاج لقفازين لتفادى اللمس المباشر والتأنى لتفادى الغلط مع الشخص، كنت أتخيل نفسى وأنا أدخل يدى فى قفازين لونهما أبيض قبل أن أبدأ بحديث مع الشخص المعنى، كنت أفكر فى حديث لا أستطيع أن أصل به إلى الشخص بسبب القفازين فى يدى، وأحاول أن ألتف حول الفكرة بأن أقول لنفسى إن أحاديث كثيرة لا تحتاج إلى حاسة اللمس، طالما الكلام والسمع متاحين.
***
اليوم، وقد فرضت كورونا واقعا يجبرنى على التعامل والتواصل بشكل أقل تلقائية وأكثر حرصا، أشعر بضيق حين تصلنى بعض التوقعات عن عالم ما بعد كورونا، إذ يبدو أن ثمة إجماع أننا سوف نعيد النظر فى بعض العادات اليومية ونرسخ عادات اكتسبناها أثناء محاولتنا الوقاية من المرض، لا شك أن نطاق القواعد الجديدة يختلف من بلد إلى بلد، وقد يختلف أيضا داخل بلد واحد وحتى داخل عائلة واحدة، بين من يطبق قواعد كثيرة تم ترديدها فى حملات للتوعية طغت على الفضاء العام، وبين من اختار أن يدخل بعد من النظام المكتسب إلى حياته دون أن يغيرها تماما.
***
زيارات افتراضية بعد الإفطار مع كوب الشاى من على طرفى الشاشة، كوب هنا وكوب هناك، احتفال بعيد ميلاد صديقة على شبكة التواصل الاجتماعى كل فى بيته فتظهر داخل المنازل وكأنها حجر مفتوحة على بعضها البعض بين البلاد، عزاء عبر تطبيق سكايب لا أحد فيه إذ أصبح الموت أيضا فعلا وحيدا لا تربيت فيه على كتف من فقد حبيب، وعند لقاء أحدهم لا مصافحة ولا قبلة على الخد، لا ذراعين ينغلقان على فأدفن رأسى فى حضن شخص أفتقده.
***
يجب ارتداء القفازين فى التعامل مع العالم الخارجى، يقولون. يجب تفادى اللمس، تفادى العناق، تفادى القبل. أى عالم هذا لا لمس فيه؟ أى عالم تفقد فيه صديقتى أمها فلا أجلس قربها أربت على شعرها بينما تحاول أن تستوعب ثقل الغياب؟ التقيت فى حياتى بأشخاص لا يحبون اللمس ولا يستسيغون التقارب البشرى أو البدنى، احترمت رغبة من يريد أن يبقى على مسافة مع الآخرين فلا يسمح بالاحتكاك، أحترم ذلك كقرار شخصى خصوصا بعد سنوات من محاولة فكفكة مفهوم المساحة الشخصية، والتى كثيرا ما يتم تجاهلها فى الثقافات المبنية على الاجتماعيات والتدخل فى مساحة الآخرين، لكن أن تصبح المسافة الشخصية طريقة حياة فى العالم فنتوقف تماما عن التقبيل والتربيت والمسح على الرءوس؟
***
التعامل مع العالم من خلال القفازين يعنى ألا أمسك بيدى حبة طماطم بلدية فأشعر بالشمس التى لفحتها والأرض التى نبتت فيها، أن ألبس القفازين يعنى أن أمرر يدى على جدار بيت قديم فلا يحكى لى قصص من سكنوه، التعامل مع العالم من خلال القفازين هو عقاب لى على لمسات ربما سرقتها دون حق، قصص سمعتها دون قصد، القفازان عقاب على قبلات ربما فرضتها على غيرى وها هو العالم يعاقبنى بحظر القبل.
***
وهكذا فأنا أدخل افتراضيا إلى غرف معيشة أشخاص لم أتخيل يوما أن أدخل بيوتهم، أتعرف على لوحة معلقة خلفهم تظهر لى فى الشاشة فأرى وجها آخر لهم لم أكن قد فكرت فيه قط. الزهور على الطاولة أمامهم تفاجئنى فأنا لم أعرف أن ثمة ألوان فى حياتهم، ها أنا أمارس هوايتى المفضلة: التلصص على بيوت الناس لكننى أمارسها من خلال الشاشة وبمعرفة أصحاب البيوت، هكذا إذا ترانى داخل غرف معيشة ناس لا يمكن أن ألمسهم، لن أصافحهم وقطعا لن أقبلهم.
***
يبدو أننا على أعتاب علاقات إنسانية من نوع جديد، ويبدو أننى من جيل لن يستطيع التكيف مع العلاقات بحلتها الجديدة، فأنا مستعدة أن أتخلى عن هواية مراقبة بيوت الناس من شباكى لكنى لن أتخلى عن وضع يدى على كتف صديق بحاجة إلى الدعم، لن أتوقف عن المسح على شعر قريبة تحاول أن تفضفض فتنهمر دموعها، أنا لست محلل القريبة النفسى حتى أمتنع عن اللمس، أنا شخص لجأت إليه بحثا عن بعض التفهم والأمان.
***
لا أعرف إن كانت العلاقات الإنسانية سوف تشهد انقلابا يرغمنى على لبس القفازات وقناع الوجه، لكن إن كانت هذه هى العلاقات الجديدة فأنا لا شك أننى سوف أتمرد عليها ولن أسمح أن تكون «العادى الجديد»، الابتعاد ليس عاديا، لبس القفازات ليس عاديا، عدم فتح ذراعى لأصدقائى ليس عاديا تماما كما هو ليس عاديا ألا أرتمى فى حضن أحتاجه أحيانا، قد أرتدى القفازين لفترة بحكم الأزمة التى نواجهها وريثما تعلن الحكومات والمؤسسات الطبية أننا ابتعدنا عن مرحلة الخطر، لكنى سوف أرمى القفازين بعد ذلك، فأنا لا أتعامل مع العالم من خلال قفازين.