أصدرت الجماعة الإسلامية بيانا مفاجئا غير مسبوق تعلن فيه عن وقف عملياتها القتالية ضد الحكومة المصرية وتوقف كذلك كل البيانات المحرضة على العنف دون قيد أو شرط ومن جانب واحد.
كان هذا البيان بمثابة الحجر الذى ألقى فى بحر المياه الراكدة والتى لا ترى فى واقعها غير عمليات الاغتيالات للضباط وغيرهم التى يقوم بها أفراد الجناح العسكرى والتى تسبقها وتتبعها عمليات قبض واعتقال وتعذيب وتصفية أو سجن لكل من ينتمى لهذه الجماعة بصلة، كل بحسب درجته وانخراطه فى الجماعة.
لم يتحمس اللواء حسن الألفى وزير الداخلية وقتها للتجاوب مع هذا البيان الذى كان يمثل إغراء كبيرا للحكومة المصرية، تملكته الهواجس والشكوك وقتها، ظنها خطوة تكتيكية لكسب الوقت وكذلك خاف من تجربة «رأس الذئب الطائر» وهو الوزير الذى سبقه فى المنصب اللواء عبدالحليم موسى الذى حاول التفاهم والحوار مع الجماعات الإسلامية المسلحة علنا فهاجمه الإعلام المصرى بضراوة فأزيح عن منصبه.
لم يقرأ هذه الخطوة قراءة صحيحة وشعر بمصداقيتها سوى اللواء أحمد رأفت وكان وقتها صغير الرتبة نسبيا بالنسبة لمثل هذا المشروع ولكل قادته كذلك، كان الرجل مخضرما ومشهودا له بالكفاءة فى عمله لذا ارتقى سريعا فى سلم القيادة وأمسك بزمام مناصب ومهام خاف منها من هو أكبر منه سنا وأكثر منه خبرة وأقدمية.
تأخر تفعيل تلك المبادرة التى خرج بيانها الأول ممهورا بأسماء ستة من القادة التاريخيين المؤسسين للجماعة الإسلامية، والتى اشتهرت بمصداقيتها فى وعودها فى الحرب والسلام معا.
جربت الجماعة فرص الحوار والتفاهم والتصالح مع الحكومة المصرية خمس مرات قبل تجربة المبادرة الأخيرة باءت بالفشل لأن الجماعة كانت تشترط فى كل مرة إطلاق سراح المعتقلين، تعلمت الجماعة من فشلها فى هذه المحاولات وعالجته فلم تشترط أى شرط.
تأخر تفعيل المبادرة لأسباب كثيرة يطول شرحها، فى أول لقاء قبل تفعيل المبادرة مباشرة قال اللواء أحمد رأفت: أستشعر صدقكم وسوف أكون صادقا معكم، مهمتكم أسهل من مهمتى، حيث إنه ينبغى على أن أقنع رؤسائى، أما أنتم فمهمتكم أن تقنعوا تلاميذكم وجنودكم.
قال كل منا للآخر بعد بداية التجربة بقليل: «هذه تجربة جديدة على كل منا، فكلانا لم يجرب السلام والتصالح والحوار، لم نجرب أن نجلس معا دون حواجز أو كراهية أو عصابة أو تعذيب أو سوء نية من أحدنا للآخر، كلانا سيتعلم من هذه التجربة.. سنبدؤها خطوة خطوة بصدق وتجرد، وكل خطوة ستزيل شكوك كل فريق نحو الآخر.
بدأنا نكتب كتبا جديدة تحمل رؤيتنا الجديدة، كان اللواء أحمد رأفت حصيفا فلم يتدخل يوما فيما نكتب، أو يطلب تغييره، كان أسهل بكثير من الضباط الصغار الذين يناقشون عادة فى الفرعيات، كان يهتم بالاستراتيجيات الكبرى فى هذا المشروع.
إنها أول مراجعة ذاتية من تلقاء نفسها تقوم بها جماعة حملت السلاح، أدرك أن تسرب التجربة للإعلام سوف يفسدها ويجهضها كما أجهض الإعلام من قبل محاولة الوساطة التى قام بها الشيوخ الشعراوى والغزالى والعوا وغيرهم مع وزير الداخلية الأسبق عبدالحليم موسى، ففشلت التجربة وطار رأس الوزير من الوزارة.
بدأت المحاضرات فى السجون، بدأ تفعيل المبادرة فى وقت قاتل بالنسبة للعالم عقب أحداث 11 سبتمبر، كان العالم كله مشغولا بالحدث، قام هو بأمر مختلف، كانت هذه أول مرة ينتقل فيها قادة الجماعة الإسلامية من سجنهم إلى سجن آخر فى أتوبيس ملكى ليست به حراسات ظاهرة، كان ذكيا فى الأمن والاجتماع والإنسانيات أيضا.
لم يبلغ أى مديرية أمن حتى لا يتسرب الخبر من هيئته فى الأمن السياسى التى يحكم قبضته عليها، كانت حراساته الخاصة ذكية مثله.
فى الطريق من القاهرة إلى سجن الوادى الجديد نزلنا فى مسجد ما زلت أذكره وأحرص على الصلاة فيه إذا مررت بالطريق متذكرا الحدث حيث تفيض مشاعرى مع أول مسجد صليت فيه خارج السجون.
نزل جميع القادة من الأتوبيس إلى المسجد كانوا من كل الصفوف والأجيال فصلينا مع الضباط، جزء من مشروعه بنى على كسر الحواجز النفسية بين الضباط والإخوة فى الجماعة، كم أكلنا معا وسافرنا معا، ولعب بعضنا الكرة أو تحادث فى أمور الحياة.
رأيناهم جميعا دون عصابة أو تكلف من أحدنا تجاه الآخر، تشاطرنا الهموم التى تجمعنا، حكى بعضنا لبعض مشكلات الحياة، تعاملنا كإنسان مع إنسان، كل منا له ميزات وعيوب، كان كل منا يرى الآخر شرا لا خير فيه ويتمنى له الشر، أصبح كل منا يحب الآخر ويرجو له الخير، لم يحدث ذلك فى وقت يسير، قد يكون تم سريعا مع ضباط اللواء أحمد رأفت المقربين، أما الأفرع فأخذت وقتا وكذلك السجون.
لقد استطاع كل منا ترويض نفسه والآخر، جاء ضباط الأفرع إلى السجون جلسوا فى الزنازين، أكلوا وشربوا وقضوا أياما فى ضيافة هؤلاء الإخوة، كانت الحراسة الخاصة باللواء أحمد رأفت تريد مصاحبته حينما يغلق عليه الباب مع أربعين أو خمسين قائدا من الجماعة أسماء بعضهم كانت تثير الرعب قديما كان اللواء رأفت يخرج حراسته قائلا: هؤلاء سيحموننى، كان شجاعا وصادقا.
هو أول رتبة كبيرة فى الأمن السياسى يتحدث إلى قرابة أربعة آلاف معتقل فى فناء السجن دون حراسة مسلحة داخل السجن، تكرر ذلك كثيرا.
كان ضباط السجون قبلها يخافون من خروج عشرة فى الفسحة فى عنبر مغلق بعدة أبواب وليس فى فناء السجن الرئيسى، ذهل ضباط السجون حينما طلب إخراج عدة آلاف معتقل إلى فناء سجن الوادى الجديد لأول مرة فى الجلسة الختامية للمحاضرات، ظنوه يهذى أو يمزح، لكنه أصر وخرجوا ودخلوا فى هدوء وصمت.
قال يوما لبعضنا: لقد راجعتم أنفسكم بصدق، فهل تتصورون أننا لم نراجع أنفسنا.. كلا.
لقد راجعنا كل شىء، وغيرنا كل شىء، كان أفرادكم يدخلون السجون ولا يخرجون، فأصبحوا يخرجون ولا يدخلون، كانت هناك دماء بيننا فتوقف كل شىء، وتوقفت الإعدامات والأحكام المشددة، وتحسنت السجون، وامتحن الآلاف وحصل بعضهم على الماجستير والدكتوراه، وحولنا الأفرع من أماكن يخاف الجميع منها ويصيبهم الرعب مما فيها إلى مكان لحل مشكلات المفرج عنهم الاجتماعية والوظيفية ومساعدة أسرهم على الحياة الكريمة، كل الذين سلموا أنفسهم طواعية لم يتم تعذيبهم، لم يكن هذا سهلا بل تعب فيه اللواء رأفت كثيرا، أما السجون فأصبحت كما ترون.
كان اللواء رأفت يكرر دوما: لقد تعمدت أن يكون منكم ثلاثة أجيال من القادة ومنا كذلك، حتى يستمر هذا الطريق بيننا، وحتى يتعلم الجميع فلسفة السلام والمصالحة.
كم شكرت الفريقين فى كلماتى فى السجون لأنهم قدموا منطق السلام على منطق البندقية، ومنطق الحوار على منطق الرصاص، وكم قلت لتلاميذى إن مشاركتى القوية فى مبادرة منع العنف هى أرضى أعمالى عند الله وأقربها إلى قلبى، سلام على صانعى السلام فى كل زمان ومكان.