عدت أخيرا إلى المكتب بعد شهور عملت خلالها عن بعد، أى من بيتى، بسبب عارض صحى أصابنى.
أول ما رأيته على مكتبى هو تاريخ فى شهر نوفمبر، الصفحة من العام الماضى حين خرجت من مكان العمل يوم خميس ولم أعد حتى هذا الأسبوع، وكأن ما حدث بين التاريخين كان جزءا مقتطعا من الوقت، من حياتى، بين قوسين. مغلق للتصليحات، نحن فى إجازة، كتلك اللائحة التى كانت تعلق على باب الدكان لإخطار الزبائن المعتادين التسوق هناك أن المكان مغلق بشكل مؤقت.
•••
أغلقت نفسى بشكل مؤقت للتصليحات فعلا. صرت كما يقال باللغة الإنجليزية «أنظر داخليا»، وكأننى شددت شيش الشباك. أم ترانى تركت الشيش مفتوحا لكنى أغلقت الزجاج، أظن أن هذا وصف أكثر دقة، فقد جلست على كرسى فى غرفة المعيشة والشباك أمامى، جعلت لنفسى ركنا فى زاوية الغرفة وضعت فيه طاولة وكمبيوتر وأمضيت ساعات أعمل وأحدث الزملاء عبر تطبيقات وشاشة. فى المساء كنت أتصفح الأخبار بينما أخذ أفراد عائلتى أماكنهم فى الغرفة وانشغلوا بأمور حياتية تابعتها كلها من حيث جلست فى الزاوية.
•••
كنت أراهم يتحركون بالفضاء الحميم وأسمع أحاديثهم والموسيقى التى يلعبونها، كنت أرى أنهم يأكلون ما أعددته لهم مسبقا ويتناقشون فى أمور يومية. لم أشاركهم حياتهم فى تلك الفترة رغم جلوسى قربهم. هالتنى فكرة الانسحاب من فضائهم ومكان معيشتهم فجلست أراقبهم وأتمعن فى ملامح كل منهم حتى حفظت كل تعبير على وجوههم وربطته بقصص حدثت خلال بضعة الشهور التى أصبحت فيها المراقب العام.
•••
عدت رويدا رويدا إلى الغرفة وصرت أمضى وقتا أقل فى الزاوية وأكثر فى وسط المكان حيث الحركة والحديث والقصص. هذا الأسبوع حين دخلت إلى مكان عملى الذى تركته منذ شهور ورأيت تاريخ اليوم الذى تركت فيه المكتب شعرت أننى عدت بعد الفاصل، عدت بعد التصليح، عدت بعد أن راقبا حياتى من الركن ومن الخارج. هكذا إذا أقص شهورا من الدفتر ــ أقلب الصفحات على تاريخ اليوم، أخرج من سنة إلى أخرى، أعود إلى المكتب حيث صور عائلتى وألوان ورسومات ابنتى تعطى للمكان بهجة اشتقت إليها.
•••
العيد هذا العام عيدى، أنا أحتفل بالعودة. أظن أننى أيضا كنت على المذبح وعدت أدراجى، أو هكذا أشعر اليوم. هو يوم احتفال بالصيف، بالدفء، بوهج الشمس حين تخف حدته بعد الظهر فيغطى النور المدينة ويصبغها باللون الوردى. أنا أحتفل بسنوات مضت وأخرى ستأتى بمغامراتها وأفراحها وأحزانها وأعيادها. سوف أتذكر أن أعطى أولادى العيدية، وأطلب من أمي أن تعمل معهم الكعك والمعمول إذ هناك الكثير لنحتفل به.
•••
أتخيل شريطا أقص منه ستة مشاهد، ستة شهور، وأعيد لصقه وكأن الحادث لم يحدث. لكنى حين أنظر إلى اليوم، أعرف أننى تعلمت الكثير من هذه الشهور المقصوصة، وأننى عدت إلى مكانى مع بعض التغييرات، كأننى صرت أقل توترا وأكثر انتقاء لما سوف أغضب منه. تعلمت أن الوقت يمر ببطء شديد حين أراقبه وهو ينسدل نقطة نقطة فى ساعة الرمل. تعلمت أننى بحاجة إلى جرعة يومية على الأقل من الألوان والنظر إلى الفن والجمال، وأننى بحاجة إلى أن أتواصل مع شخص واحد على الأقل ممن يعيشون بعيدا عنى ولا أراهم.
•••
أعيد ما قصصته من الشريط، ألصقه بشريط لاصق لا أستطيع إخفاءه فهو كشريط لصق أسلاك الكهرباء، سميك وأبيض. لا يهم، فأنا لن أمحو ما حدث ولن أنساه، إذ هناك حياة قبل ما حدث لى وهناك حياة بعد ذلك أيضا ها أنا قد عدت إليها. العيد هذا العام هو عيد العودة إلى الحياة بعد أن أخذت خطوة أو اثنتين خارجها وتأملت ما حولى للفصل بين ما يعطى أيامى معنى وما هو عابر وغير مهم. أعود وأنا أقدر كل التقدير من أمسك بيدى حين كنت أخاف، ومن لم يتوقف عن مهاتفتى وفتح أحاديث يومية حتى أشعر أن يومى عادى. تعرفت من جديد على من حولى من خلال طريقتهم بالتعبير عن وقوفهم قربى.
•••
هو شريط فيه آثار قص ولصق لم تتوقف خلاله الأحداث بل على العكس، أعطاه الشريط اللاصق ختم الخبرة، يعنى أن خطواتى تعثرت واحتجت أن ألصق أجزائى بمساعدة من حولى إنما عدت وأعدت معى الصور كلها أعيد النظر إليها وإلى من فيها فأعرف أن هذا العيد هو عيد الحياة بمن فيها من أصدقاء وقصص وحكايات لا تتوقف، وحين نتعب نستخدم شريطا لاصقا يذكر أن حدثا مخيفا مر من هنا وذهب.
•••
أغلقت الدفتر فى المكتب بعد أن عدت إلى ذلك اليوم وخرجت منه. اليوم عيد العودة إلى ذلك اليوم والخروج بعده من جديد إلى الحياة.
كاتبة سورية