عايش صياد شاب يصطاد الأسماك فى بحر مدينة القصير كما علمه أبوه والذى بدوره تعلم من أبيه. وبالرغم من أنه يعمل نهارا فى وظيفة دائمة، لكنه لكى يستطيع أن يفى بمتطلبات الحياة مثل من هم فى سنه فإنه الصيد الذى هو بالنسبة له المهنة الأصلية يقوم بها بعد انتهاء وظيفته الدائمة. وهو فى ذلك مثل العديد من سكان المدينة الذين يعدون أنفسهم بالأساس صيادين. يعرف عايش أن البحر الأحمر بطبيعته فقير نسبيا فى الأسماك ويعرف أنه نتيجة لذلك لم يسكن البحر الأحمر فى تاريخه إلا أعداد محدودة من البشر للعيش على ما يصطادون.
يعرف عايش أيضا أنه بسبب تزايد سكان البحر الأحمر وخاصة من أواخر القرن العشرين تزايد الطلب على الأسماك، لتلبية احتياجات السكان والزائرين والزائرات وفى إطار البحث الدائم عن الرزق يقوم بعض الصيادين المضطرين لتوفير ما تحتاجه أسرهم من نفقات بممارسات ضارة جدا بأعداد أسماك البحر بل والبيئة البحرية ككل كما سمع عدة مرات. واستمع عايش فى أحد اللقاءات التى نظمت لمناقشة مشاكل الصيد فى البحر الأحمر لمن يقول إن إجمالى ما يتم اصطياده من أسماك فى السنة فى البحر الأحمر يتعدى أكثر من عشرة أضعاف ما يجب صيده حتى لا يتأثر أعداد وأنواع الأسماك به. كما يعرف عايش أن بعض أنواع الكائنات فى البحر على وشك الاندثار مثل خيار البحر وربما الآن الأخطبوط. كما يعرف كيف أن المحاولات الرسمية التى قامت بها الحكومة لتنظيم الصيد وقصره على أوقات محددة لم تفلح مسبقا. وأصبح الوضع متدهورا بشدة من وجهة نظر الصيادين كما هو من وجهة نظر الحكومة والمهتمين بالسياحة.
لكن عايش يتذكر أيضا المرات العديدة التى اتصل به أصدقاؤه من العاملين كمرشدين ومدربى غوص فى القرى السياحية شمال المدينة ليسألوا عن أماكن تواجد بعض أنواع الأسماك حتى يمكنهم توجيه السائحين إليه ويتمنى أن يتطور هذا التعاون لما فيه فائدة للطرفين. ولأنه يقرأ عن ضرورة وجود مراكز لمراقبة ومتابعة الأسماك والكائنات البحرية الأخرى مع عدم وجود تمويل لها، يتمنى لو تحول التعاون بين الصيادين ومراكز الغطس ليوجد شبكة تقوم برصد أحوال الكائنات البحرية والإبلاغ عن ما يبدو طارئا وربما يتم تشجيع مراكز الغوص على تركيب أدوات ثابتة تحت البحر وربما فى مراكب الصيد ليتم من خلالها جمع المعلومات والتعامل مع ما يطرأ بالسرعة الواجبة.
• • •
سمع عايش من صديقه الباحث القادم من القاهرة أنه يمكن لهذا التعاون أن يؤسس لدعم الدراسات التى يقوم بها معهد علوم البحار والمصايد فى الغردقة والمراكز الأخرى عن تأثير المركبات السياحية التى تجوب البحر الأحمر يوميا على تجمعات الأسماك وتكاثره. حيث نعرف مثلا من دراسات عالمية تأثير الأصوات تحت البحر على الكائنات البحرية. كما لا نعرف الكثير عن تأثير النفايات مثل البلاستيك على الأسماك والكائنات الأخرى فى البحر الأحمر. ولا نعرف أيضا تأثير تسرب الزيوت المعدنية المستخدمة فى إدارة المراكب السياحية وحتى مراكب الصيد على الأسماك. نحتاج للعديد من الدراسات عن أنواع الأسماك وبيئاتها والاعتمادية المتبادلة بينها وبين البيئات البحرية المختلفة سواء الشعاب المرجانية أو المانجروف أو الحشائش البحرية. كما لا نعرف الكثير عن طبيعة الارتباط بين البيئة البحرية والبرية والدور المهم التى تلعبه مكوناتهما المختلفة فى ذلك.
يعرف عايش عن بعض الدراسات المحلية التى وثقت كيف أن البيئة الطبيعية لها تأثير واضح على الإنسان وأنشطته الاقتصادية وخاصة فى مهنة الصيد، فالمعارف المحلية للصيادين قادت للتعرف على الأوقات فى اليوم التى يفضل فيها الصيف بخلاف المواسم المعينة التى يكون فيها الصيد وفيرا، وأيضا فرقت بين أنواع الأسماك الطيبة للأكل والأخرى السامة، كما شملت التعرف على سلوك الأسماك والإشارات على تواجدهم والتعرف على طبيعة قاع البحر فى الأماكن المختلفة وما هى الطرق الأنسب للصيد. كما تشمل التعرف على الرياح التى يجب تجنبها مثل النوات وأين توجد الملاذات الآمنة منها، أيضا معرفة الفروقات الدقيقة بين الأسماك وتحديد الاتجاهات خلال الصيد عن طريق النجوم وهذا بالطبع لا يمنع شباب الصيادين من المغامرة باستكشاف أماكن جديدة للصيد. يستخدم الصيادون حالة القمر والنجوم والسحب وحركة الأمواج لعمل توقعات للطقس، يرونها فى كثير من الأحيان أدق مما تحمله الآن مواقع الطقس المتوافرة كما يستطيعون أن يتوقعوا تأثير الحرارة والبرودة على مدى إمكانية نجاح رحلة الصيد. لا شك أن المعرفة المحلية للصيادين بكيفية تأثر البحر بالظواهر الكونية مثل المد والجزر وعلاقتها بالقمر يمكن أن تساهم فى إيجاد طرق ووسائل محلية للتكيف مع البيئة الطبيعية فى المستقبل كما ساهمت فى ذلك فى الماضى وبما لا يؤثر على النشاط الاقتصادى.
يعرف عايش بعض الباحثين الذى يترددون على القصير كثيرا ويتساءلون عن إمكانية أن توفر الدراسة الأكثر عمقا للمعارف المحلية للصيد ربطا أفضل بالمعارف الأكثر حداثة عن التهديدات التى تواجه البيئة البحرية والبرية فى البحر الأحمر وكيفية مواجهتها؟ وهل يمكن لتلك الدراسة أن تشكل مدخلا أكثر اتساعا لدراسات أخرى مبنية على البيانات والدلائل بما يمكن من إيجاد توجه يمكن توصيله للمواطنين والزوار، ولكنه أيضا يشجع على الدراسة والبحث والابتكار وتنمية قدراتنا المحلية على إدارة مواردنا الطبيعية؟
• • •
أعجب عايش بما سمعه من هذا الباحث أننا ربما يمكننا النظر للسياحة على أنها جزء من أنشطة الصيد المتعددة وفى إطار فلسفته للتعامل الرفيق بالبحر والاستفادة منه مع تركه ينمو ويزدهر حتى يمكن لهذا النشاط أن يستمر وأن يكون مستداما. هل يمكن بعد توقف شركة الفوسفات عن العمل ــ منذ نهاية القرن العشرين ــ التفكير فى أن يحل مكانها نشاط يرتبط بالصيد ويعمل على توفير احتياجات سكان المدينة الذى تزايد أساسا بسبب الأنشطة الصناعية؟، هل يمكن أن نفكر أن نستخدم ما تبقى من مبانيها لدعم الدراسات البحرية للتعرف بصورة أكثر دقة على البحر وكائناته وتحدياته كما يمكن أن نفكر فى أنشطة ترتبط باستزراع برى يتناول الطحالب الكبيرة (نجحت إحدى دول المتوسط فى عمل ذلك منذ سنوات قليلة) كما يمكن بدء تجارب لعمليات الاستزراع السمكى على البر؟، وبالرغم من قلة تلك الأنواع التى يمكن تربيتها بهذه الصورة وربما عدم نجاح تجربة تمت منذ سنوات فإن العلم والتجارب العلمية المتعدد غالبا ما تستدعى محاولات كثيرة ودراسات للتغلب على التحديات التى تواجه الواقع لأنها إذا نجحت ستمكن من خلق وظائف للصيادين يستطيعون بها سد احتياجاتهم كما سيتم سد جزء مهم من فجوة نقل واستيراد الطعام للمدينة كما ستقلل من الضغوط على الصيد البحرى.
فى مطلع القرن الواحد والعشرين كتب الدكتور أحمد السيد السعيد، أننا يمكن أن نفهم الفلاحة بصفتها علاقة عميقة مع الكون، فهل يمكن أيضا فهم الصيد فى صورة مشابهة؟. يمكن للصيد فى هذا الإطار أن يكون ترجمة مكانية للترابط بين سكان المدينة وبين البيئة البحرية أو ما يمكن وصفه بمنظومة اجتماعية إيكولوجية تسمح بدعم وتكوين مبادرات محلية يكون لها أكبر الأثر على مستقبل عايش وأولاده والكثير ممَن هم فى حاله فى مدينة القصير والتجمعات الأخرى على طول البحر الأحمر.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة