أكثر من 99% من المصريين، حكاما ومحكومين، ومن كل المشارب السياسية يؤمنون بوجود مؤامرة عالمية على مصر، وينسبون إلى هذه المؤامرة كل تعثر أو فشل، وكل حدث أو تطور لا يوافق توقعاتهم أو أمنياتهم، ومع ذلك فلا يسجل تاريخ مصر القريب ــ أو البعيد نسبيا ــ مرة واحدة انتبه فيه أولئك المحذرون غيرهم من المؤامرة العالمية إلى عدم الوقوع فى شراكها.
ليس تفنيد ودحض هذه العقيدة هو موضوعنا على أية حال، وليس استعراض وقائع السقوط فى شراك المؤامرة فى تاريخنا هو هدفنا، ولكن موضوعنا وهدفنا هو أن نتذكر جميعا أن حماية الأقليات والأجانب كان من ذرائع التدخل الخارجى فى شئوننا والاحتلال الأجنبى لبلدنا، منذ أن أصبحت مصر هدفا للسيطرة الاستعمارية الأوروبية، فهذا أول وأهم ما يجب أن نتذكره كمواطنين، وسياسيين، ومسئولين عن إنفاذ القانون، وصناع ومتخذى قرارات فى مواجهة الاعتداءات الغوغائية المتكررة على المواطنين الأقباط، لتكون الجريمة ضد أقباط قرية دمشا وهاشم بالمنيا هى آخر هذا النوع من الجرائم المنحطة.
بالطبع فليس القلق من التربص الخارجى هو وحده ما يوجب الحزم والحسم ضد مرتكبى الجرائم الطائفية، ولكن يسبقه ويعلو عليه حقوق المواطنة المتساوية المكفولة فى الدستور، ووجوب تطبيق القانون نصا وروحا، بواسطة السلطات المختصة، ولا أحد غيرها، دون هوادة، أو مواءمات توصف بأنها سياسية، مع أنها ليست من السياسة فى شىء، ولكن يبقى أن العامل الخارجى هو أحد المحاذير المهمة فى المسألة الطائفية عندنا، كما أن الانتباه له يساعد أو يجب أن يساعد فى تحفيز السلطات العامة على الحزم والحسم، كما يساعد ويجب أن يساعد على تبصير الغوغائيين والمحرضين بأى منقلب ينقلبون، وأية كارثة يجرون إليها وطنهم، الذى لا يكفون عن الحديث عن المؤامرة العالمية عليه.
كانت حماية التجار «الافرنج» من اضطهاد البكوات المماليك من ذرائع حملة نابليون، وكانت حماية الأقليات والأجانب بعد مذبحة الاسكندرية عام 1882 هى الذريعة المباشرة للاحتلال البريطانى لمصر، ثم أضيفت إليها بنود حماية عرش الخديوى وحقوق السلطان العثمانى، ومصالح الدائنين الأوروبيين كأسباب أصلية.
وفيما بعد ظل بند حماية الأجانب والأقليات سببا لتأخير حصول مصر على الاستقلال الوطنى الكامل، فكان أحد التحفظات الأربعة الشهيرة فى تصريح 28 فبراير 1922، الذى ألغى الحماية البريطانية، ولم يتسن لمصر التخلص من هذا القيد على الرغم من توقيع معاهدة 1936 إلا بتوقيع اتفاقية انتقالية لإلغاء الامتيازات الأجنبية، والقضاء المختلط، وهو ما لم يكتمل إلا فى أواخر أربعينيات القرن الماضى.
كذلك سجل عدد كبير من ضباط يوليو 1952 ممن كتبوا مذكراتهم أن حماية حقوق الأقليات والأجانب كانت من شروط الولايات المتحدة الأمريكية للاعتراف بالنظام الجديد، ومنع القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس من التدخل ضدهم، ضمن شروط أخرى بالطبع.
كان هذا هو الماضى البعيد والقريب نسبيا.. فماذا عن التاريخ الأحدث؟
لا نظن أن أحدا نسى أن المسألة الطائفية فى مصر بوصفها قضية حقوق انسان كانت حاضرة دوما فى مجريات العلاقات الأمريكية المصرية، منذ استئنافها بعد حرب اكتوبر، فكان الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر هو أول رئيس للولايات المتحدة يستقبل شيخا للأزهر، وبابا قبطيا فى البيت الأبيض، وكان خلفه رونالد ريجان أكثر اهتماما منه بهذه المسألة بسبب خلفيته المحافظة، وتحالفه المستجد مع اليمين المسيحى، والحركة الأصولية البروتستانتية فى أمريكا.
وفيما بعد امتد الاهتمام إلى الكونجرس، ثم منظمات حقوق الإنسان الأمريكية والدولية، وظهر اللوبى القبطى فى المهجر الأمريكى.
كذلك لا نظن أن أحدا نسى أن الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن مارس ضغوطا علنية على مصر تحت حكم حسنى مبارك فى المسألة الطائفية ضمن ضغوطه فى قضايا أخرى، وأنه فى تلك السنوات عقدت جلسات استماع فى الكونجرس، وصدرت توصيات، واقتطعت مبالغ من مخصصات المعونة الأمريكية لأسباب تتعلق «بانتهاك حقوق الأقباط»، ومما يؤسف له أن مبارك لم يتخذ بعض الخطوات التقدمية فى هذا الملف – مثله مثل ملف حقوق المرأة ــ إلا بسبب هذه الضغوط الأمريكية، ومن تلك الخطوات اعلان يومى عيد الميلاد، وعيد القيامة عطلتين رسميتين، وتعيين أول محافظ قبطى، وتعيين نساء فى مناصب قضائية، وهذه حقوق أصيلة للأقباط وللنساء بموجب الدستور، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى وقعته مصر، كان ينبغى الاقرار بها، وتوفير إمكانات ممارستها للجميع دون تمييز، بغض النظر عن بوش أو غيره من الرؤساء الأمريكيين، أو غير الأمريكيين.
أيضا كانت حقوق غير المسلمين من الأولويات فى خطاب الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما الشهير فى جامعة القاهرة عام 2009.
أما من يمنون أنفسهم بأن الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب مختلف عن سابقيه، وأنه حريص على علاقة خاصة مع مصر لأسباب استراتيجية، كمشروع التحالف السنى ضد إيران، أو كصفقة القرن، فعليهم أن يتذكروا أن هذا الرجل هو امتداد لكل من ريجان وبوش الابن فى الاستناد إلى تأييد اليمين المسيحى، وربما زاد عليهما فى عدائه المعلن للاسلام والمسلمين، وعليهم أن يتذكروا أنه دخل فى حرب اقتصادية وسياسية مفتوحة وشرسة ضد الرئيس التركى اردوغان بسبب اعتقال تركيا للقس الأمريكى برونسون، المتهم بالضلوع فى محاولة الانقلاب الأخير هناك،
وكان حرص ترامب على ضمان تصويت جماعة برنسون الدينية للجمهوريين فى انتخابات نوفمبر المقبل من أهم أسباب حربه هذه ضد تركيا، الشريك المؤسس فى حلف الأطلنطى.
ثم إن رجلا كترامب يجب أن لا يراهن أحد على ثباته على مبدأ، أو يجب أن لا تؤمن عواقبه.
لقد سبق لنا – ولغيرنا – أن قلنا إن مصر كانت منذ مجىء نابليون إليها – ولا تزال ــ شأنا دوليا، سواء أحببنا ذلك أو كرهناه، وسنكون واهمين أو غافلين إذا افترضنا أن ما حدث فى الماضى يستحيل أو يصعب تكراره، ففى غمرة أحداث ثورة يناير 2011، وحين بدا أن الموقف تجمد، خصوصا بعد معركة الجمل، اقترح الدكتور بطرس بطرس غالى، نائب رئيس الوزراء المصرى (سابقا)، والأمين العام للأمم المتحدة (سابقا أيضا) فى حديث إلى صحيفة الأهرام دعوة مجلس الأمن لإيجاد حل للمسألة المصرية، وما أدراكم ما مجلس الأمن فى الشرق الأوسط ؟!
ومن جانبهم كان الاخوان المسلمون المعتصمون فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة لا يمانعون، بل يعولون على تدخل أمريكى (ولو عسكرى) لإعادتهم إلى الحكم، وليس هذا حديثا مرسلا يستند إلى اتهامات خصوم الاخوان، ولكنه النتيجة التى خلص إليها باحث قريب منهم، وانتمى إليهم وهو محمد جلال القصاص، وذلك فى رسالة ماجستير اعتمدت على منهج البحث الميدانى، وهو ما يستكمله حاليا فى بحثه لنيل الدكتوراه، وقد نشر ملخصا لدراسته هذه على موقع مدونات الجزيرة يوم 30 أغسطس الماضى، أى منذ أيام فقط.
إذن توجد قوى دولية، وأطراف محلية لا تمانع، بل ربما تحبذ مبدأ التدخل الدولى فى مصر، وتنتظر الذريعة، فهل توجد ذريعة أقوى من حماية الأقليات، ولنا معها ذلك التاريخ الطويل الحزين؟!
وإذن ــ أيضا – فالمطلوب هو إبطال هذه الذريعة مرة واحدة والى الأبد، ولكى نبطلها، فليس مطلوبا سوى إنفاذ القانون دون النظر لأية اعتبارات أخرى، والقضاء المبرم على العرف السائد المؤدى إلى إفلات المذنبين والمجرمين من العقاب بصورة منهجية مطردة.
أخيرا وإلى جانب هذا السبب البراجماتى البحت المتمثل فى حماية الاستقلال الوطنى من التدخل الاجنبى بدعوى حماية الأقليات، وبالاضافة إلى الأسباب الدستورية والقانونية، هناك سبب يمكن وصفه بالسبب الحضارى الأشمل، وهو حلول الذكرى المئوية لثورة 1919، التى أرست مبدأ الدين لله والوطن للجميع، ورسخت دولة المواطنة والقانون، فهل يعقل أن ننتكس قرنا كاملا من الزمان إلى ذلك الماضى البغيض، كمن يساقون إلى الموت وهم ينظرون؟!