فى العودة إلى أماكن عشت فيها أحداثا كبيرة الكثير من القسوة. أو بالأحرى العودة إلى تلك الأماكن دون من رافقونى فى المرة الأولى يشعرنى بفراغ وكأنى معلقة فى الهواء. حاولت خلال زيارتى للمدينة الصاخبة التى أمضيت فيها عدة سنوات فى بداية حياتى الأسرية أن أنظم أفكارى وأفك أسرار عاصفة اجتاحتنى عند ناصية شارع أو مدخل عمارة مألوفة. هنا كنت أمضى أيام السبت، أى أيام العطلة، أدفع بابنى الأصغر فى المرجيحة أو أنتظر ابنى الأكبر أسفل الحبل الذى كان ينزل منه من أعلى اللعبة. هنا توقفت مع الولدين لأحاول أن أجد سيارة أجرة تأخذنى إلى المستشفى وقد بدأت المخاض إذ كنت حاملا بابنتى. شددت على يدى الولدين وسألانى لماذا كل هذه الشدة وأنا أتوسل للكون ألا ألد فى الشارع.
***
أعود إلى مكان عشت فيه مع أقرب الناس إلى، كان أطفالى صغارا وكنت أما تشك كل يوم بقدرتها على الاعتناء بهم، كنت أما تتساءل كل صباح إن كانت تستحق أن تكون أمهم. أمشى هذا الأسبوع فى الشوارع التى ما زلت أتذكر معظم تفاصيلها رغم تغييرات طرأت عليها بسبب مرور السنوات وأيضا بسبب الجائحة، إذ أغلقت الكثير من المحلات والمقاهى أبوابها فى السنتين الماضيتين. أمشى وأحاول أن أتخيل نفسى بعد عشر أو عشرين سنة، بعد أن يستقل أولادى كل منهم فى حياته. أتخيل نفسى أمر أمام الحديقة العامة فأتوقف لأستمتع بأصوات أطفال سوف يذكروننى بأطفالى. لا أعرف لماذا أستبق الزمن هكذا وأختنق فى شوارع هذه المدينة المكتظة وأنا ما زلت أما لأطفال لن يرحلوا من المنزل قبل بضع سنوات على الأقل.
***
أستبق رحيلهم وأستبق شعورى بالفراغ وأستبق شوارع سوف أمشى فيها مع زوجى، والدهم، وقد أبطأ الزمن من خطواتنا فلم نعد فى سباق مع المدينة بإيقاعها المجنون. سوف نتوقف عند زاوية كان لنا فيها ذكريات إذ تلقينا خبرا هنا، أو ربما نأكل فى مطعم احتفلنا به ذات يوم بمناسبة سعيدة. سوف نعود بأحاديثنا إلى سنوات زواجنا الأولى وطفولة أولادنا هنا وسوف نتساءل إن كنا فعلا قد استمتعنا بسنواتنا هنا أم أن سباقنا مع الزمن والعمل والشأن العام قد طغى على الاستمتاع بالمدينة.
***
ها أنا أستبق سنوات التقاعد، أتخيلنى فى شارع مكتظ أمشى بإيقاع مريح إذ لم أعد على عجلة للحاق بالدوام اليومى أو بساعات مدرسة الأولاد أو بموعد طبيبهم. ها أنا أتوقف عند زاوية وأتذكر مكوث زوجى فى المستشفى وجلوسى قربه ثم عودتى إلى الأطفال فعودتى إلى جانبه. ثم أتذكر مكوثه قربى وأنا فى سرير المستشفى بعد ولادة أحد أطفالنا.
***
استباق السنوات مرعب حتى فى عذوبة الصور التى تظهر لى هنا، فى هذه المدينة التى شهدت فيها أحداثا كبيرة وشهدت هى الكثير من أحداثى الصغيرة. ففى العودة إلى شوارع مألوفة دون من شاركنى الشوارع فيها غصة تكاد أن تخنقنى. ما هذا الحنين المسبق لفترة لم تأتِ بعد؟ ما هذا الخوف من مستقبل يبدو لى فى مخيلتى صافيا نهاياته سعيدة؟ أنا أصلا لا أعرف إن كنت سأعود إلى المدينة مرة ثانية حتى أتخيل كيف سأعود إليها!
***
ترتبط الأماكن فى قلبى بالناس، بمن رافقونى فى رحلتى أو فى مكوثى فى مدينة. أتأكد فى زيارتى هذه أن المدينة التى أحببتها كثيرا تثير خوفا كبيرا فى داخلى رغم لقاء بعض الأصدقاء: ماذا لو لم أعد إليها مع من أحب؟ ماذا لو رحل عنها الأصدقاء جميعا؟ ها أنا إذا أربط المكان بالناس بالأحداث وأنشر قصصى على لائحات الإعلانات على طول شوارع المدينة. هنا أوقع ابنى لعبة فسقطت بين قضبان الصرف الصحى ولم أستطع التقاطها وها هو يبكى طوال الطريق حتى عدنا إلى البيت. هنا بلغت زوجى أنه تم قبولى فى وظيفة جديدة.
***
لكل منا حكايات نحيكها على إيقاع الأماكن التى نعيش فيها فتتلون مع تغيير الفصول وتأخذ من ألوان الخريف عنوانا لها: أظن أن بداية الخريف تثير العواطف فأخاف من بداية النهايات رغم جمال ألوان الخريف ودفئها ونضجها. فى جمال الخريف بداية حزن الرحيل، فيه شجن وحالة من الرضا تأتى مع اليقين أن ثمة أشياء جميلة ما زالت تنتظرنى رغم أننى أمضى قدما بالسنوات وأترك خلفى الشباب والمفاجآت التى ربما لو حدثت اليوم سوف أتلقاها بهدوء.
***
يا لقسوة العودة إلى هذه المدينة فى الخريف، خريف السنة وخريف العمر، حتى لو أن الخريف فى أوله ففيه قبول ونضج وشجن من يبحث عن وجه حبيبه بين أوراق الشجر فيجد جزءا منه فى كل ورقة ثم تتطاير كل الأوراق مع الريح.
كاتبة سورية