«ما حدا يرمى الرز البايت، رح نعمل فيه فتة» تقول الأم بعد العشاء. «وما حدا يرمى الخبز الناشف رح ناخده على الحديقة نطعميه للحمام والعصافير» ترد عليها الجدة وهى تفتت باقى الخبز وتضعه فى كيس. تكرر جدتى (وجدات سوريات كثيرات) تحذيرا من رمى أى شىء، ونتذمر نحن، الأجيال الأكثر شبابا، من تجميع أشياء لا فائدة لها فى نظرنا. نفتح الخزانة فنرى علبة البسكويت المصنوعة من الصفيح ونتساءل لماذا تضعها الجدة مع الثياب، نرفع عنها الغطاء فتظهر الخيوط الملونة والدبابيس المرصوصة بعناية ومستلزمات الخياطة الكاملة. ننظر إلى رف المطبخ فنرى مرطبانات متشابهة كلها بداخلها بهارات مختلفة، تم شراء البهارات من السوق القديم، القرفة وجوزة الطيب والقرنفل والكمون وأوراق الغار، كلها فى مرطبانات كانت يوما للمربى لكنها اليوم، بعد أن فرغت وتم غسلها صفت صفا واحدا على رف فى المطبخ مخصص للبهارات.
نفتح الثلاجة فنعلم أنه، وكما قالت الوالدة، سيتم استخدام الكمية غير المستهلكة من الرز المطبوخ منذ أيام فى صنع طبق الفتة بعد أن يتم تسخينه مع قليل من مرق الدجاج لإعادة الطراوة والنكهة إليه. باقى دجاجة أول الأسبوع المشوية ستأخذ الكثير من البهارات ومن عصير الليمون والقليل من الثوم المدقوق والطحينة والبقدونس وستقدم كلحمة باردة فى ساندويتش. باقى صابون اليدين سيتم بشره ووضعه فى أكياس قماشية صغيرة لتعطير الثياب فى الخزانة. هذا طبعا غير الفواكه التى أوشكت أن تتلف فنعقدها مع السكر لنصنع منها الخشاف، أو الفانيلات القطن التى استخدمها على الأقل شخصان فى البيت قبل أن تصير ممسحة للغبرة (للتراب) ومن بعدها ممسحة للأرض، فلكل شىء عدا الإنسان حيوات عدة فى سوريا، يتم استخدام الشىء نفسه فى مراحل متتالية ومختلفة، وتتبادله أياد عديدة ضمن العائلة، تماما كما يلعب الإنسان دورا مختلفا فى مراحل حياته المتتالية.
***
من الملفت أن إعادة التدوير لم تكن يوما، فى العقلية السورية، مرتبطة بالقدرة المالية أو انعدامها فى المنزل، فهى مرتبطة فقط بقدرة السوريين على الاستفادة من كل شىء، وهذا بحد ذاته فن نفخر بامتلاكه، فترانا نصف إحداهن فنقول «ست بيت ممتازة ومدبرة، كل شى له عندها استعمالات متتالية متنوعة»، فكان من المعيب أن يقال عن إحداهن أنها ترمى باقى الطعام أو أدوات المطبخ التى لا تستخدمها، فكلما أعادت تدوير شىء كلما ربحت نقاطا فى عرف حسن التدبير.
لم نكن نتخيل أن فخرنا بحسن تدبيرنا لأمورنا اليومية سيتحول إلى آلية تساعد السوريين أحيانا على البقاء على قيد الحياة، فإعادة التدوير هى اليوم أكثر من أى وقت مضى وسيلة للسورى للاستفادة قدر الإمكان، وحتى آخر نقطة، من شىء قد لا يستطيع الحصول على غيره بسبب تدهور الأحوال المعيشية للكثيرين، ونزوحهم وتهجيرهم ووصولهم إلى مراحل يحاولون فيها أن يتمسكوا بكرامتهم وألا يظهروا حاجتهم إلى المساعدة. فى مخيم الزعترى للاجئين فى الأردن زرعت سيدة مسنة نباتات عطرية متعددة فى علب صفيح كانت تحتوى على السمنة، حصلت عليها من منظمة إنسانية توزع المواد الغذائية. فى مخيم فى لبنان قامت سيدة سورية بإعادة تدوير الخيام التى وزعتها المنظمات الإنسانية، واهترأت من الاستعمال لعدة سنوات، فخيطت معاطف أطفال من بقايا قماشها المضاد للماء والمطر.
فى البيت السورى لا نرمى شيئا، هكذا تقول الجدات، فلكل شىء استخدام، ولا مكان لنظرية «الفنغ شوى» اليابانية المعتمدة على التخلص من «الكراكيب». الأشياء فى البيت السورى ليست «كراكيب»، أو هى ليست «كراكيب» طالما بقينا نستعملها حتى فى طرق مبتكرة.
***
اليوم، يعيد السوريون تدوير أنفسهم، تماشيا مع ظروفهم الجديدة، محاولين بذلك أن يتكيفوا مع واقع وجدوا أنفسهم فيه، فصرنا نتحدث مع بائع البقلاوة فنعرف منه أنه مهندس، ونكتشف بعد زيارتين إلى مركز تديره منظمة إنسانية للاجئات السوريات أن مدرسة محو الأمية فى المركز كانت معيدة فى الجامعة فى حمص. أما داخل سوريا، حيث يقدر المراقبون أن ثمانين فى المائة من الناس باتوا تحت حزام الفقر بسبب تردى الأوضاع وتدهور الليرة السورية، فقد أصبحت إعادة التدوير من مستلزمات البقاء على قيد الحياة.
السوريون يعيدون تدوير حياتهم، يستمدون قوتهم من ذاكرة فردية أو جماعية خزنوها فى مكان عميق داخلهم، يرجعون إليها أيام السواد فيتخيلون أنفسهم فى بيتهم يوم العيد يستقبلون الضيوف، أو أمام مدرسة أولادهم بانتظار أن يتحدثوا مع المديرة التى استدعتهم بسبب مشاغبة الولد الأوسط. يرجعون إلى أحلام كانوا قد بنوها لأنفسهم، فيها دفء يوم ربيعى فاجأهم بعد شتاء طويل، فيها برد ليلة نزل فيها الثلج للمرة الأولى فى السنة، فجلسوا ينظرون من خلف زجاج الشباك إلى الحلة البيضاء تغطى الأرض وهم يتغطون بلحاف سميك. فى أحلامهم يوم كان فيه أفراد العائلة مجتمعين حول مائدة فرح الأخ الأصغر، فى أحلامهم بيت صغير تحيطه حديقة بنوه أخيرا بعد سنوات من العمل الشاق.
***
أعاد السوريون تدوير أحلامهم حتى أصبحت تتمحور حول أمور تأمين المسلتزمات اليومية، والاطمئنان على الأحباء. فى سوريا لا نرمى شيئا بل نعيد استعماله حتى يهترئ بين يدينا. أما اليوم، فنتمسك بما جئنا به من هناك، ونقتصد فى استخدامنا له خشية أن يخذلنا هو الآخر، كما خذلتنا أحلامنا، حتى البسيطة منها، أخيرا.