كان يردد «أنا خلقت للغلابة»، وكأنه أراد أن يقلد الطبيب الأعظم المسيح عليه السلام الذى كان يبرئ الأكمه «وهو الذى ولد أعمى وهى أصعب أنواع العمى» والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله.
شعر أن رسالة الإحياء التى ورثها الأطباء عن السيد المسيح هى أنسب الرسالات لشخصه وتكوينه، فقد عاش فقيرا ولولا مجانية التعليم التى أدخلها الرئيس عبدالناصر ما استطاع دخول كلية الطب، وزاد فى إحساسه بالفقراء موت والده فأصبح مسئولا عن أشقائه فتضاعفت مسئولياته وازداد إحساسه بالفقراء واليتامى.
كان والده يشعر به ويحسن قراءة شخصيته مبكرا فأوصاه قبل موته بالفقراء والمساكين، كان الرجل عند حسن ظن أبيه قبل وبعد موته، وعند حسن ظن أشقائه فلم يتخل عنهم أو ينكص عن واجبه نحوهم وكان عند حسن ظن الفقراء والمساكين به.
فى بداية عمله بإحدى الوحدات الصحية جاءه طفل محروق حروقا شديدة، ذُهل من هول الحروق واتساعها، وحاول علاجه بكل الطرق دون جدوى، كانت الحروق أكبر من إمكانياته، حتى إن الأهالى شاركوا فى إنقاذه، ولفوه ببطانية لإطفاء الحريق.
علم د/ مشالى قصة الطفل الموجعة وأنه هو الذى حرق نفسه فقد كان مصابا بمرض السكر، يتيم الأب، تكاد أسرته تجد قوتها بالكاد، طلب من أمه أن تشترى له حقنة الأنسولين، قالت لا أملك سوى ثمن الطعام، فاختاروا بين الطعام والحقنة، ثم حسمت الأمر باختيارها للطعام.
هكذا الفقراء واليتامى كل خياراتهم مؤلمة وصعبة، وهكذا تمضى بهم الأيام من ألم إلى ألم ومن تعب ونصب إلى محنة وكدر، ونادرا ما يتنفس الزمان لتحل الفرحة مكان الدمعة، والأمل بديلا عن الألم، لم يملك الطفل المريض أمام حسم خيارات الأم سوى أن يحرق نفسه، وأخذ يردد قبلها: «لقد وفرت لكم أجر الحقنة لتشتروا الطعام».
ذُهل د/ مشالى من هول القصة التى عاش آخر فصولها فكرس حياته لإنقاذ هؤلاء من مثل هذا المصير المؤلم.
شعر أن الفقراء هم الأولى بالرعاية والعناية، فهم لا سند لهم فى الحياة إلا الله ثم كفاحهم، داس على رغبات المال والعيون الخمس التى يتيه بها الأطباء، لم يفكر فيها.
كان يفحص المرضى بأجور رمزية وصلت فى نهاية المطاف فى القرن الحادى والعشرين إلى عشرة جنيهات فى الوقت الذى يأبى السباك إلا أن يفحص الحنفيات بمائة وخمسين جنيها، ويأبى الميكانيكى أن يفحص السيارة إلا بمائتى جنيه.
ظل فى مكانه مع الفقراء وفى القرى عاش لهم وبهم، نسى فى غمرة اهتمامه بهم أن يطور عيادته أو يهتم بملابسه أو يركب سيارة، زوَّج أشقاءه قبل أن يسأل فى نفسه وحاجاته الإنسانية.
كان يمكن أن يموت دون أن يسمع عنه أحد، ولكن الله أبى إلا أن يعرف الناس بخيره، وينشر فضله بين الخلائق، فساق له الإعلامى المبدع أ/ محمود سعد ــ الذى أراه يحب المساكين والفقراء ــ ليظهره فى إحدى حلقاته ببرنامجه «باب الخلق».
كل الذين يتعاملون مع الله يكرمهم الله حتى وإن بالغوا فى إخفاء خيرهم، أولياء الله أيقونة جميلة ولعل د/ مشالى واحدا منهم ولاية الله ليست دروشة ومسبحة طويلة وحضور موالد، ولاية الله تعنى توحيد الحق والرحمة بالخلق، تعنى حب الحق «سبحانه» ونفع الخلق، ولى الله هو أكثر الناس نفعا للناس وشفقة عليهم.
قوة د/ مشالى فى إنسانيته وبساطته لم يتكلف يوما فى حديث أو ملبس أو يلمع نفسه، بدا أمام الشاشة مثل ما هو فى المنزل، أو العيادة أو الشارع.
عاش بقلبه ومشاعره مع حديث النبى الرائع «خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ» أدرك أن الذى سيمكث فى الأرض ما ينفع الناس ويسعدهم ويطبب جراحاتهم ويلم شعثهم.
كانت وصية والده وقصة الطفل الحريق وقراءته لكتاب «المعذبون فى الأرض» لطه حسين، محركات لطريق رعايته للفقراء الذى استمر لقرابة خمسين عاما حتى أطلق عليه «طبيب الغلابة».
كان د/ مشالى منعزلا عن الدنيا كلها مع مرضاه الغلابة فى قرية نائية فلم يقبل تطوير أدائه الطبى وهذا خطأ، وكذلك رفضه لمنحة عشرين ألف جنيه لتجديد عيادته حينما غلبته عاطفته، فتجديد العيادة كان سيصب فى صالح الفقراء أيضا، فالطب منظومة متكاملة تحتاج إلى تحديث وتطوير وتحسين للأداء باستمرار وما كان يصلح فى الستينيات لا يصلح للقرن الحادى والعشرين، وأعظم الأطباء عطاء هو الذى يرعى الفقراء من خلال منظومة صحيحة متكاملة وبمستوى أداء رفيع مثل العلماء مجدى يعقوب، محمد غنيم، إبراهيم بدران، حسام موافى، والأخير أصر على أن يكون أجره حتى اليوم رمزيا رغم قيمته وقامته، فجمع بين الحسنيين أو أولئك الذين أنشأوا المستشفيات التى تخدم الفقراء مجانا مثل مستشفى 57357، أو مستشفى الناس، أو بهية، أو الأورمان للسرطان أو غيرها.
ولا مانع للطبيب أن يرعى الفقراء ويهتم بمظهره، ويرحم الغلابة من خلال منظومة متكاملة مثل مستشفى محمود التى أقامها د/مصطفى محمود، أو مستشفى المواساة التى أقامها والد د/أحمد عصمت عبدالمجيد، ولكن الذى اختاره د/ مشالى لنفسه لا يستطيع أحد أن يعيبه عليه ولكن يختار أفضل منه وأشمل، ولعل نيته الطيبة هى التى رفعت شأنه وأعلت قدره وجعلت ذكره محمودا فى الآفاق، ولعلها صحوة جديدة توقظ بعض الأطباء الذين ملأهم الغرور والكبر وحولوا الطب من رسالة إلى تجارة ناسين قدوتهم الطبيب الأعظم المسيح عليه السلام الذى عالج مرضاه جميعا بالمجان قربة إلى الله.
والحقيقة أن آلاف الأطباء فى مصر يسلكون مسلك د/ مشالى بطريقة أفضل وأحسن وهم أقوى فى تخصصاتهم، ولكن لا يعرفهم الكثيرون مثل الأساتذة إسماعيل موسى، جبريل يوسف، الأحمدى السمان، إبراهيم عامر فى الرمد وفى الصعيد فقط فما بالنا بكل فروع الطب وربوع مصر، وقد تعلمت على يد أحد هؤلاء مثل د/ طوسون زعزوع رحمه الله الذى وهب حياته وعلمه للفقراء والمحتاجين، حتى صار رمزا لبلدتنا كلها وكأنه واحد منها.
د/ مشالى مدحه العالم كله، مدحه شيخ الأزهر، آثنت عليه كل منصات التواصل الاجتماعى بكل أطيافها وتنوعاتها، مدحه المسلمون والمسيحيون، كل هؤلاء أنطقهم الله بذكره الحسن رغم أنه لا يملك أى وسيلة للدعاية، إنه الله الذى يضع القبول لأهل ولايته فى الأرض بالسبب ودون السبب وعكس السبب.
كرر د/ مشالى قوله «أنا خلقت للغلابة».. تفوق د/ مشالى تفوق أخلاقى فى المقام الأول، وإنسانيته هى التى رفعته إلى هذا المقام العظيم، الأخلاق والرحمة بالذات ترفعك أعلى من كل مناصب الأرض مجتمعة وصدق الإمام الأكبر حينما وصفه «إنه نسيج وحده فى الإنسانية والإيثار».. نعم لأنه أعاد للمهنة إنسانيتها ورحمتها بعد طول غياب.
سلام على الرحماء الذين يقتبسون من اسم الله «الرحمن والرحيم والرءوف» أفعالهم الكريمة.