عندما نتكلم عن البحث العلمي أول ما نفكر فيه هومشهد علماء يقومون بتجارب أمام أجهزة شديدة التعقيد تثير إنبهار العامة وآخرون غارقون في بحر من المعادلات الرياضية المعقدة. هذا قد يكون صحيحاً من حيث الشكل لكن ما هي نوعية تلك الأبحاث التي قوم بها هؤلاء العلماء؟ وما تأثيرها على حياتنا؟ من أجل الإجابة على تلك التساؤلات تم وضع الكثير من تصنيفات البحث العلمي. في مقال اليوم نستعرض تصنيف مهم (هذا رأيي الشخصي) لأنه يوضح العلاقة بين البحث العلمي والتكنولوجيا وبالتالي التأثير على حياة الناس.
هذا التصنيف وضعه بيتر لي من مركز أبحاث شركة مايكروسوفت. هذا التصنيف يضع صفتين للمشكلة البحثية: صفة زمنية وصفة نوعية. من حيث الزمن فحل المشكلة البحثية يكون مفيداً في المدى القصير أو تظهر فائدته على المدى الطويل. أما من حيث النوع فالمشكلة البحثية قد تكون البحث عن حل لمشكلة موجودة على أرض الواقع حالياً وقد تكون الإجابة عن سؤال إفتراضي تكون الإجابة عنه مفيدة في مشكلات مستقبلية. التصنيف النوعي يقارب جداً تصنيف العلوم التطبيقية والعلوم البحتة، فالرياضة التطبيقية مثلاً تحاول حل مشكلة موجودة فعلاً، أما الرياضة البحتة فتضع حلولاً وأدوات رياضية قد تنفع في المستقبل.
مع وجود هاتين الصفتين يمكننا وضع أربعة تصنيفات للمشكلة البحثية. النوع الأول هي المشكلة التي تحتاج حل سريع (أي على المدى القصير) وتحل مشكلة موجودة على أرض الواقع مثل مثلاً تحلية مياه البحار أو زيادة كفاءة الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة من الشمس أو إيجاد علاج للكورونا. النوع الثاني هو البحث الذي يضع حلاً يظهر أثره سريعاً لكن لا يحل مشكلة موجودة على أرض الواقع مثل تصنيع بطاريات لأجهزة الكمبيوترأو المحمول لا تحتاج إلى شحن إلا كل عدة أسابيع.
النوع الثالث هي المشاكل الموجودة على أرض الواقع ونريد حلاً طويل الأمد مثل إنهاء مرض السرطان من العالم، هناك علاجات للسرطان لكن لها أثارها الجانبية لذلك يجب تحسين هذه العلاجات. أما النوع الرابع فهي الأسئلة البحثية التي يظهر أثرها على المدى الطويل وليست موجهة لمشكلة ملحة على أرض الواقع، وهذه النوعية من المشكلات البحثية تكون في العلوم الأساسية غالباً ويكون حلها فتحاً كبيراً في العلوم ويكون الدافع لها هو الفضول العلمي، أمثلة على هذا النوع الرابع من التاريخ هو إكتشاف نيوتن لقوانين الحركة، في البداية لم تكن هناك مشكلة ملحة لكن على المدى الطويل كان ذلك فتحاً كبيراً وأدي إلى تطبيقات لا حدود لها مثل تصميم السيارات والمباني. أما وقد عرفنا الأنواع الأربعة للأبحاث العلمية فلنحاول اسقاتها على أبحاث الذكاء الاصطناعي.
النوع الأول من الأبحاث الذي يحل مشكلة قائمة وتظهر نتائجه سريعاً هو ما نراه الآن من استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات حياتنا مثل الاستخدامات الطبية في تشخيص الأمراض أو الاستخدامات الاقتصادية مثل التنبؤ بأسعار الأسهم إلخ. هنا السؤال البحثي يتلخص في عدة نقاط: ما نوع الذكاء الاصطناعي الذي سنستخدمه (فالذكاء الاصطناعي أنواع ولكل نوع مزاياه وعيوبه) وما هي المعلومات التي سنستخدمها في "تدريب" برنامج الذكاء الاصطناعي ليستطيع حل المشكلة، فمثلاً في موضوع الأسهم سيتم تدريب البرنامج عن طريق تغذيته بتاريخ سهم معين ومتى ارتفع سعره ومتى انخفض الخ. هذه في حد ذاتها ليست مشكلة سهلة الحل لهذا أصبحت هناك حاجة ماسة لأقسام جامعية متخصصة في علوم المعلومات (Data Sciences).
النوع الثاني هو البحث الذي يحل مشكلة على أرض الواقع ولكن الحل يظهر على المدى الطويل مثل برمجيات ذكاء اصطناعي لا تحتاج معلومات مصنفة، مثلاً تعليم برنامج الذكاء الاصطناعي تشخيص أمراض الرئة عن طريق صور الأشعة يستلزم اعطاء البرنامج ألاف من صور الأشعة ومع كل صورة معلومة إذا ما كانت تمثل مرضاً ما وما هو هذا المرض أو أن الشخص سليم، يسمى هذا النوع من تعليم الألة: التعليم تحت الإشراف (supervised learning) وهو النوع الأول من المشكلات. النوع الثاني هو إعطاء البرنامج صور الأشعة دون أية معلومات أخرى وعلى البرنامج التوصل وحده إلى الشخص السليم والآخر المريض وهذا هو التعليم الذي لا يحتاج إلى إشراف (unsupervised learning).هذا النوع من الأبحاث موجود فعلاً ومنذ عدة سنوات لكنه لا يستخدم على نفس النطاق الواسع مثل النوع الأول ومازل يحتاج إلى تحسين.
النوع الثالث وهو لا يحل مشكلة عاجلة لكن الحل يؤتي ثمارة سريعاً مثل برمجيات الذكاء الاصطناعي التي لا تأخذ معلومات من البشر وتحصل عليها بنفسها، مثال على ذلك هو برنامج ألفا زيرو من جوجل الذي أعطته فقط قواعد لعبة الشطرنج ولم تعطه أي خطط أو إفتتاحيات أو أي شيء آخر وأخذ الكمبيوتر يلاعب نفسه بنفسه ويتعلم وبعد 70 ساعة تمكن من هزيمة بطل العالم ليس البشري (فهذا قد تم منذ زمن) لكن بطل العالم لأجهزة كمبيوتر الشطرنج. تمت تجربة البرنامج أيضاً في لعبة الجو وهي أصعب من الشطرنج بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر وتمكن من الفوز على بطل العالم البشري. من هذا النوع الثالث برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تستخدم ما تعلمته في مجال ما وتحل به مشكلة في مجال آخر، مثل الشخص الذي يستخدم خبراته في عدة مجالات. مازالت الأبحاث المتعلقة بتلك المشكلات تتم على قدم وساق وهناك المئات من الأوراق البحثية المنشورة عنها بخلاف الأبحاث السرية في الشركات والمعامل الحكومية، لكن الطريق مازال طويلاً.
أما النوع الرابع المتعلق بالأبحاث طويلة المدى الغير متعلقة بمشكلة معينة فلنطلق لخيالنا العنان: ماذا عن برمجيات ذكاء اصطناعي تتصل ببعضها وتتبادل الخبرات؟ ماذا عن برمجيات تطور نفسها؟ ماذا عن برمجيات تطور جهاز الكمبيوتر نفسه؟ قد يطيب للبعض أن يتسائل: وماذا عن جهاز كمبيوتر مزود بالمشاعر؟ الرد على ذلك يكون: بخلاف الانبهار الذي سنحس به والتسلية ماذا ستكون أهمية هذا الجهاز؟ قد يتسائل آخر: ماذا عن جهاز كمبيوتر واع؟ يكون ردي: تعريف الوعي ليس سهلاً.
في مصر طفرة كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي وأعتقد أن أغلب المجهود يجب أن يذهب إلى النوع الأول، على الأقل الآن، وبعض المجموعات البحثية عندنا تعمل على النوعين الثاني والثالث، ولندع النوع الرابع جانباً الآن فليس الوقت مناسب لتلك الرفاهية العلمية. في المستقبل يمكن أن يتغير هذا الترتيب حسب ما نتوصل إليه.