فى الحرب والحب - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الحرب والحب

نشر فى : الأربعاء 7 ديسمبر 2016 - 10:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 ديسمبر 2016 - 10:05 م
يمشى الرجل فى المدينة المزدحمة بعد يوم حافل قضاه فى إلقاء محاضرات فى الجامعة عن عمله كطبيب فى بلاد أقل حظا من بلده. تحدث بشغف عن تجاربه فى أولى مهماته، وعن دهشته وهو طبيب شاب يخرج من بلده للمرة الأولى إلى بلاد كان قد قرأ عن تاريخها فى كتب المدرسة، ولطالما تخيل فيها الفيل والزرافة أو البيوت المصنوعة من سعف النخل، فلما وصل إليها لم ير فيها فيلا واحدا. بدا الحضور مشدوها بالحكايات التى شاركهم بها عن بلاد لم تعد اليوم موجودة بحدودها التى عرفها حين زارها. كان الطبيب قد بدأ هذا النوع من العمل متطوعا مع منظمات إنسانية ترسل أطباء وممرضين إلى مناطق تصفها بالمنكوبة، فتعمل الطواقم الطبية فى مشافٍ ميدانية أثناء الحرب.

يحكى الطبيب عن قرابة أربعين عاما قضاها وهو يعمل بشكل متقطع فى مناطق الأزمات، كان يعود بعد كل مهمة إلى بلده حيث المشافى تعمل بانتظام، والكهرباء لا تنقطع، وغرف المرضى فيها ورود فى مزهريات وعلب شوكولا جاء بها الأقرباء فى زياراتهم لمرضاهم. بدا الطبيب السبعينى على المنصة فى صحة ممتازة، وعيناه تلمعان حين يسأله أحدهم عن الحياة وسط الموت، وعن المفارقة بين عمله فى بلد الطب، والخدمات فيه متقدمة، وعمله فى المشفى الميدانى.

***

فى القاعة سيدة يبدو من شكلها أنها من إحدى بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، تركز فى كلمات الطبيب وتتفحص حركة يديه فوق الطاولة، فهو يحركهما حين يكون فى كلامه شىء له علاقة بحياته الخاصة، مثلا حين سألته سيدة من الحضور إن كانت لديه أسرة، فانتقل بعض من النقاش بعد ذلك إلى إمكانية التوفيق بين الحياة الأسرية وبين المغامرات فى البلاد المنكوبة.

***

يتوقف الطبيب لحظات عن الكلام، يميل برأسه قليلا وهو يحاول أن يبعد تلك الصورة عنه، فهى قادرة على أن تشتت أفكاره إن طغت عليه. ها هو يعود شابا فى الأربعين من عمره يحاول أن يوقف نزيف طفل نقلوه إلى المشفى ظانينه ميتا وإذ به متمسك بالحياة. يزدحم المكان بالمصابين، فقد كان ذلك أسبوعا داميا فى حرب كانت تفاجؤهم كل مرة بعنفها المتزايد. توقف النزيف، فبدأ الطبيب بشق جلد الطفل لإخراج الشظية. كان الجو شديد الحرارة مما زاد من الطلب على مولد الكهرباء الذى كان يغذى المكان. استغرقت العملية ساعات، خرج من بعدها الطبيب الشاب منهكا، فتلقته شابة خارج المكان تبلل وجهها بالدموع فهم الطبيب أنها والدة الطفل فطمأنها على حالته دون أن يخفى عنها احتمال أن يكون للحادث آثار مستقبلية على صحة الطفل.

لازمت السيدة ابنها طوال فترة مرضه، فكان الطبيب يراها صباحا حين تصل. كانت تبتسم له بحياء فيرد لها ابتسامتها. كان الطبيب يتردد على سرير الطفل عدة مرات فى اليوم، لكنه سرعان ما اضطر أن يعترف لنفسه أنه، وبغض النظر عن واجبه تجاه طفل هو مسئول عن صحته، إنما كان فعليا يكرر زياراته بغرض رؤية السيدة. لم تمض أيام إلا ولاحظت مساعدته الممرضة الذكية نظرات الطبيب، وارتباكه الطفيف فى حضور الوالدة الشابة، فأخبرته أن السيدة أرملة وتربى ابنها الوحيد فى زمن الحرب هذا.

***

أحب الطبيب الشابة دون أن يفكر، وأحبته هى أيضا، فالحب أصلا لا يخضع للتفكير بل يجرف ما حوله ويقتلع محاولات العقلنة. التقيا بعد عودة الطفل إلى البيت، وكان كل لقاء مغامرة. لم يكن يتكلم لغتها لكنها كانت قد درست لغته فى المدرسة، كانا يتحادثان طويلا عن كل شىء، وبالخصوص عن الحرب وعن الحب، حتى وصل ذلك الغد، فوجد نفسه يرحل وهو يحس وكأنه يقتلع بأصابعه مسمارا مثبتا فى الحائط. أما هى فقد ترك المسمار ثقبا فى قلبها لم يتوقف عن النزيف.

كثيرا ما راجع الطبيب نفسه فى السنوات الكثيرة التى تلت حبه للأم الشابة، خصوصا حينما انقسم البلد الذى التقاها فيه إلى دويلات، وتساءل هو ترى فى أية دويلة من تلك الدويلات انتهى بها المطاف، فقد كانت عائلتها مختلطة عرقيا ككثير من أهل بلدها. كثيرا ما تساءل عن حياته فيما لو كان قد بقى هناك كما فعل بعض زملائه، أو عما لو كان أتى بها إلى حيث يعيش. لكنه لم يتواصل معها بعد أن رحل عن بلدها قط.

***

اليوم، وبعد المحاضرة، عادت القصة إلى خاطره من جديد، وشعر الطبيب أنه بحاجة إلى أن يحكيها للمستمعة متوسطية الملامح التى مشت إليه بعد أن خف الزحام من حوله، وسألته عن أكثر شىء ندم عليه فى حياته المليئة بالقصص. لا جواب لديه حول ما إن كان قد غلط برحيله وبتركه ذلك الحب وراءه، فللحب قدرة على أن يخلط الماضى بالحاضر دون أن يستأذنك، فتجد نفسك فجأة شابا فى الأربعين فى بلد تأكله الحرب، لا أجوبة قاطعة ودائمة إنما هناك أجوبة واضحة لكن آنية، تبدو شديدة الصحة فى لحظتها، لكننا نختار فيما بعد إن كنا سنجلد ذاتنا مدى الحياة على قرار اتخذناه أو حب تركناه ساعتها وهربنا. فى الحب كما فى الحرب، القرارات الحاسمة قد تكون مؤلمة، وبعد الحب كما بعد الحرب، نجد عشرات الحلول التى كان يمكن أن تجنبنا الوجع. ثم نعود رجلا سبعينيا ترك المهنة، وصار يحكى عن الحب قبل الحرب لفتاة التقاها صدفة فى محاضرة، وذكرته بأنه ربما كان قد أخذ المنعطف الخطأ فى الحياة.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات