فى اليوم التالى للجائحة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 4:16 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى اليوم التالى للجائحة

نشر فى : الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 أبريل 2020 - 10:25 م

أجرُّ كرسيا من بيتى وأضعه فى مواجهة محل البقالة الصغير عند ناصية شارعين، من هنا أرى كل من يمر من أربعة جوانب ومن يدخل إلى المحل، بل وأرى أيضا محتوى الأكياس التى يخرجون بها فهى بلاستيكية شفافة يظهر ما فى داخلها.
***
مضت سنة على تحول العالم من قرية كبيرة إلى بيوت مغلقة، سنة على اجتياح فيروس غامض لحياة ملايين البشر، سنة على الحجر ومنع التجول وسنة على توقف حياة كانت تستمد إيقاعها من شريط الأخبار فيخلق هذا الأخير شعورا زائفا باتصال البلاد والشعوب مع بعضها البعض، فرغم عملية انتقال بدأت منذ عشرين سنة حولت الكثير من التعاملات اليومية إلى تعاملات رقمية، إلا أنها همشت ملايين البشر ممن لم يملكوا ترف الانتقال الرقمى، مضى عام إذا على إعادة النظر فى كثير من المسلمات، وعام على انكماش الفضاء العام، وعلى انسحاب بدأ خجولا ثم كبر ككرة الثلج إلى داخل البيوت، بعيدا عن الشارع، بعيدا عن المسرح ودار السينما والمطعم، بعيدا عن التجمعات وعن الاجتماعيات.
***
اليوم تم الإعلان عن انتهاء هذه المرحلة، وخرجت صافرات الإنذار تعلم العالم أن صفحة قد طويت وأن معدل تفشى الوباء وعدد الوفيات قد شارف على الاقتراب من الصفر، وبذلك يكون قد تم القضاء على الفيروس بعملية اشترك فيها العالم كله بشكل يضع البشرية فى المقدمة، قبل المصالح الفردية وقبل المكاسب المالية.
***
أجلس إذا على كرسى أخرجته من البيت ووضعته فى الشمس فى زاوية أراقب منها العالم كما انكمش منذ عام، أى أن عالمى أصبح هذه الزاوية وشعبى هو الجيران، أما مركز التجارة العالمى خاصتى فهو أبو أحمد البقال الذى لم يغلق متجره يوما منذ اندلاع الأزمة وأجبرنا على إعادة ترتيب استهلاكنا على أساس ما هو متوافر، فجأة أصبحت بعض المواد ترفا وبعضها الآخر يوميا، فجأة عادت إلى الحياة وصفات تعتمد على مكونات أقل تعقيدا، فجأة تذكرت استخدام جدتى للصابون البلدى لشعرها وجسدها ولغسيل السجاد وتنظيف الأرض، لم تستعمل غيره، بعكسى، أنا التى خصصت منتجا لكل استخدام.
***
هنا من موقع المراقبة الذى وضعته لنفسى فى الزاوية، أرى الشارع وهو يستيقظ فتمد يدان عملاقتان نفسهما فوق العمارات فى عملية تمدد للرئى، ثمة نفس عميق يأخذه الجميع هذا الصباح وهم يخرجون رءوسهم من الأبواب وينظرون إلى الشارع وإلى بعضهم البعض وكأنها المرة الأولى التى يضعون فيها وجوههم خارج بيوتهم، يفتح بعضهم أفواههم فتخرج أصوات دون خروج كلمات واضحة فى اللحظات الأولى ثم تبدأ الكلمات خجولة فى الأول وصدئة، كأنها تخرج من خزانة قديمة ولم يستخدمها أحد منذ شهور، «أهلا أهلا، الحمد لله على السلامة، كيف الصحة؟»
***
تخرج الجارة إلى مدخل العمارة، تمد يديها إلى السماء، تحاول أن تلمس السحاب ثم تنظر حولها وتهز كفها لتلعب مع الشمس، صباح النور، حرفيا! يخرج الجار الشاب من البيت أمامى فى كامل أناقته، أتساءل أين ينوى الذهاب فى اليوم الأول ما بعد سبات دام عاما، أنظر إلى وجهه علنى ألتقط بقايا من مشاجرته مع زوجته، لقد سمعت صراخهم كل ليلة دون استثناء، ووصلت إلى كلمات جارحة كان يرميها فى وجه الزوجة دون اكتراث، لطالما تساءلت عم كان بإمكانها أن تفعل فى ظل الظروف التى أجبرتها وأجبرتنا جميعا على البقاء داخل بيوتنا، اليوم، فى اليوم التالى للكارثة، هل سأراها تخرج من البيت بحقيبة تنتقل بها إلى حياة جديدة بعيدا عن شاب أنيق يهينها كل ليلة؟
***
على الناصية المقابلة تقف سيدة كنت أراها من شباك بيتى وهى تدهن وجهها بالكريم كل مساء وتدندن أغانٍ فرنسية قديمة، لا أعرف عمرها إنما تبدو كمن يتم وصفهن بأنهن دون عمر، سيدة لجميع الأعمار، فيها شىء يافع وفيها حيوات بأكملها كنت أتخيلها مع كل أغنية تختارها فى المساء، تقف الآن هى الأخرى فى الشمس تمط يديها فوق رأسها وكأنها تستعد للقفز نحو السماء.
***
من مكان المراقبة حيث وضعت الكرسى، أرى الشارع يستيقظ والجيران يخرجون الواحد تلو الآخر من بيوتهم، لقد كبر الأطفال! أهز رأسى حين تلتقى عينى بعينى أحدهم، أنا أعرفكم جميعا فقد مارست هوايتى المفضلة من خلف ستار شبابيك بيتى وراقبتهم وتحركت فى شقتى حسب عادات كل منهم، أعرف ما يطبخون وتابعت المسلسلات التى تابعوها، أعرف من يتعطر فى الصباح ومن يستقبل الليل وكأنه سيلتقى بالحبيب.
***
استيقظ الشارع بعد سبات واستيقظ العالم الذى تحول من قرية كبيرة إلى قرى كثيرة سوف تتعلم من جديد كيف تعيش على كوكب واحد دون أن تتنافس على الموارد، فقد علمنا أبو أحمد البقال أن الموارد تكفى للجميع بل وتفيض، سوف تتعلم القرى أن المرض لا يقف عند الحدود لذا فما يصيب إحداها سوف يصيب الجميع، يستيقظ العالم من سبات دام عاما وأنا أمضى يومى فى كرسى جررته من بيتى إلى ناصية عند شارعين، وأتخيل أننى كما بت أعرف تفاصيل الجيران، لا بد أنهم هم أيضا باتوا يعرفون الكثير عنى، أبتسم وأتساءل، وما الضرر؟

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات