هل من زرار باستطاعته أن يعيد تشغيل العالم، كما لو توقف جهاز الكمبيوتر عن التجاوب وجمدت معه الشاشة فأدوس على زرار يستطيع إطفاءه ثم أعيد تشغيله؟ غالبا ما سوف تختفى آخر الملفات التى عملت عليها ولم أحفظها إن دست فعلا على الزرار، لذا فإعادة التشغيل تحمل معها تحدى أن يضيع بعض فصول الكتاب، الكتاب خاصتى حياتى وحياة من حولى.
***
لا بأس أن تختفى الفصول الأخيرة فى حكاية المنطقة العربية، لا بأس أن يعاد تشغيل الجهاز إن كان فى ذلك فرصة لتفادى السقوط الحر الذى يسحب معه معظم من يحاول أن يرفع رأسه فى بلد عربى ويعيش بكرامة. هى عربة انفكت من قطار، هى عربات ذهبت كل منها باتجاه خارج السكة فارتطمت إحداها بجدار وسقطت أخرى فى واد وغرقت الثالثة فى النهر. وهكذا لم يسلم أحد إلا قائد القطار المجنون وطاقمه ممن يتبعونه دون تفكير، فهم ما زالوا فى العربة الأولى فوق السكة يقودونها غير آبهين بتفكك باقى القطار.
***
هل يعقل أن تلتهم النيران منطقة بأكملها فتجوع بلاد القمح والمشمش وتفلس عاصمة المصارف وتختفى أراضى الزيتون ويبكى النيل بؤس أولاده ويشكو نهر دجلة تصفية شبابه؟ ما هذا الجحيم الذى سقطنا فيه، لا نكاد أن نرفع رأسنا فى محاولة لأخذ نفس حتى نتلقى صفعة تعود وترمينا على الأرض؟
***
أم أنه قد تم فرز الناس فى السنوات الأخيرة فجاء حظى أن ألتحق بمجموعة النكد؛ حيث القصص الحزينة الواحدة تلو الأخرى؟ أمتن لوجود كثير من أصدقائى فى مجموعتى وأتساءل أحيانا عن سبب فرزنا جميعا إلى مجموعة النكد ونحن ناس نحب الحياة ونطمح إلى تحسين العالم ولو بقدر صغير يرفع شديدى البؤس من بؤسهم حتى يخرجوا رأسهم فوق الماء ويتنفسوا.
***
يقول من يسبقنى سنا وخبرة أن فى أوقات العسر لا بد من التمعن قليلا والتوقف عن الحركة. لابد من بعض التأمل وبعض المسافة، لا بد من خلق مسافة أمان تحفظ أحدنا من طيش السائق وهستيريا الجماعة، يبدو أن ثمة حكمة من التأنى وبطء الحركة، وعدم اتخاذ قرارات مصيرية حين يقوم أحدهم بخلط جميع أوراق اللعب دون أن يرينا ما يخلط.
***
أقرأ يوميا عن انتحار خيرة الشباب والشابات من المنطقة، أسمع عن يأس لم يشعر به الناس منذ عقود طويلة، يقول اللبنانيون أن أوضاعهم باتت أسوأ مما كانت عليه فى أحلك ليالى حربهم الأهلية. تخرج سيدات مصر وبلاد أخرى أخيرا عن صمتهن فى وجه استباحة أجسادهن من قبل من حولهن سواء بالقانون أو بالممارسة. يقول المتفائلون أن ثمة ضرورة لإخراج العفن كله إلى الشمس قبل أن يتحسن العالم.
***
فى ثلاثية «الكوميديا الإلهية» للكاتب الإيطالى دانتى تجلس البشرية فى الجحيم أولا ثم تنتقل إلى مرحلة التطهير قبل أن يتم فرز من طهر نفسه فعلا من الذنوب ليستحق المرحلة الأخيرة وهى الجنة. درست هذا العمل الأدبى الضخم منذ سنوات كثيرة ولم أفهم وقتها رمزية القصة تماما. أما اليوم، وأنا أتساءل إن كنا قد انتقلنا من مرحلة الجحيم إلى مرحلة التطهير، فأنا أعود إلى بعض أجزاء الكوميديا الإلهية وأراها بعيون من ينتظر أن يطهر نفسه والعالم من حوله عله يطفو أخيرا إلى السطح وينجو من الغرق.
***
فى مرحلة التأمل هذه، ألاحظ أن أحلامى باتت صغيرة. لا أريد عالما بألوان قوس قزح، أريد فقط أن يبهت السواد من حولى. لا أريد بالضرورة شمسا متوسطية تضحك لى طول الوقت، أريد فقط أن أفتح الشبابيك لتدخل أشعة الشمس إلى البيت فتزيح الظلام. لا أريد أن أجرى فى الشارع فلا يصطادنى أو يؤذينى أحد، أريد فقط أن أتحرر ومن حولى من بعض الحبال التى تلتف على الرقاب فتمنعنا من التنفس إلا بأمر من يمسك أول الحبل.
***
أحلامى الصغيرة ترافقنى فى مرحلة التأمل، قد يسميها البعض «متع صغيرة»، راحة البال مثلا وفنجان قهوة فى الصباح، حياة يومية معقولة فيها قدرة على توقع الآتى والتعامل معه، صحة معقولة فأنا لا أطمح أن أكسب أى جائزة أولمبية إنما أريد أن أمشى وأنام وأصحو دون مشاكل. يبدو أن لا متع صغيرة ولا أحلام صغيرة أيضا فى مرحلة الجحيم، لا شىء سوى محاولة للاستمرار بالتنفس منعا للاختناق. ممكن فى هذه المرحلة أن نعود إلى بعض ما قرأناه فى السابق ومحاولة فهمه من جديد. كأن أزور ديوان محمود درويش وأوافقه أنه «ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة لم نحلم بأشياء عصية نحن أحياء وباقون.. وللحلم بقية».