جاءت نتائج الانتخابات النيابية الفرنسية بعد الجولة الثانية التى حصلت يوم الأحد لتحمل مفاجأة كبرى لم تكن منتظرة كليا إذ توقع العديد من المراقبين عشية الانتخابات، أن تأتى النتائج بانتصار حاسم لليمين المتشدد من خلال الحصول على الأغلبية المطلقة فى الجمعية الوطنية الجديدة تسمح له تشكيل الحكومة الجديدة وحده إذا شاء عدم التعاون مع أى طرف آخر. كما توقع مراقبون أكثر واقعية أن يحصل هذا اليمين المتشدد على أكبر كتلة نيابية دون أن تكون له الأكثرية المطلقة. عنصر المفاجأة تمثل فى تراجع هذا اليمين إلى الموقع الثالث وراء الجبهة الشعبية الجديدة أو تكتل اليسار التى جاءت فى المرتبة الأولى ومعسكر الرئيس ماكرون الذى حل فى المرتبة الثانية.
ساهم فى ذلك دون شك ما يعرف بالتصويت المفيد لمحاربة اليمين المتشدد والذى دفع الكثيرين للتصويت لمعسكر الرئيس فى الحالات التى كان فيها تنافس على كرسى النيابة بينه وبين ممثل لهذا اليمين المتشدد.
الانقسام الحاد الذى تعيشه فرنسا يعكس بشكل خاص الأزمة الاقتصادية المتزايدة والمتراكمة بتداعياتها المتعددة والمختلفة على المجتمع. الأزمة التى زاد من حدتها تراجع دور الدولة الاجتماعى كما اعتبر اليسار بشكل خاص، وذلك لمصلحة سياسات اقتصادية نيوليبرالية.
أزمة يحمل اليسار مسئوليتها بشكل عام للسلطة وخياراتها فيما يحملها اليمين المتشدد للهجرة غير القانونية المتزايدة بتكلفتها الاقتصادية والاجتماعية وثم السياسية التى غيرت مع الوقت وجه فرنسا وطبيعة المجتمع الفرنسى: المسئول عن الأزمة هو «الآخر» المختلف فى اللون والدين والعرق حسب أدبيات هذا اليمين المتشدد.
انعقاد الجمعية الوطنية الجديدة فى ١٨ من هذا الشهر وبروز الخريطة السياسية المنبثقة عن هذه الانتخابات، سيظهر حجم الكتل النيابية فى المجلس الجديد وإطلاق مسار تشكيل حكومة جديدة. وستدخل فرنسا فى التجربة الرابعة وهى الأصعب هذه المرة بسبب طبيعة القوى الأساسية الجديدة، فى تشكيل تجربة «معايشة» أو «مساكنة» جديدة ستكون الرابعة فى الجمهورية الخامسة بين رئيس ينتمى إلى حزب وحكومة تمثل أكثرية تنتمى إلى حزب أو تكتل آخر مختلف. فى الماضى كان الأمر سهلا نسبيا كون الخلافات بين القوتين الرئيستين (التجمع من أجل الجمهورية والاشتراكيين) لم تكن بهذه الحدة. فرنسا اليوم تعيش فى خضم أزمة سياسية اقتصادية حادة يغذى كل بعد منها البعد الآخر وينعكس أيضا على الاستقرار المجتمعى. وهى تعيش فى محيط من الأزمات/ الحروب فى جوارها من أوكرانيا إلى حرب إسرائيل فى غزة ولبنان، من أوروبا إلى البحر الأبيض المتوسط فى عمقه الشرق أوسطى وكذلك فى عمقه الإفريقى. وكل هذه الحروب والأزمات لها تداعيات بدرجات وأشكال مختلفة على فرنسا مجتمعا وسياسة واقتصادا.
ستبدأ قريبا «لعبة» التفاوض لتشكيل الحكومة الجديدة فى ظل ظروف ضاغطة كما أشرنا. هنالك صعوبات، ولا نقول استحالة، أمام تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات من حيث خريطة القوى خاصة أنه لا توجد أكثرية قادرة أن تشكل الحكومة وحدها، بل هنالك الحاجة إلى حكومة تعبر عن «تحالف» سياسى حول برنامج حكم، وذلك ليس بالأمر السهل، ودونه الكثير من العوائق وعنصر الوقت الضاغط فى خضم التحديات الداخلية والخارجية التى أشرنا إليها.
خيار آخر قد يلجأ إليه الرئيس الفرنسى قوامه تكليف شخصية محايدة تكنوقراطية للعمل على تأليف الحكومة الجديدة. وهذا ليس بالأمر السهل أيضا إذا لم يحظ هذا المسار بقبول، ربما كأمر واقع، من قبل قوى أساسية فى الجمعية الوطنية الجديدة.
أزمات متعددة الأوجه تعيشها فرنسا آخرها، غداة الانتخابات، قد تكون أزمة حكم شديدة مع تعثر تأليف حكومة تعكس هذه الخريطة السياسية.