نشر موقع السفير العربى مقالا للكاتبة «نهلة الشهال»، رئيس تحرير السفير العربى، تتناول فيه مشكلة الأونروا ورغبة الرئيس الأمريكى فى حلها وإدماج الفلسطينيين فى مفوضية اللاجئين، بعد قراره باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
تستهل الكاتبة الحديث قائلة لا تُنكر الإدارة الأمريكية وجود لاجئين فلسطينيين. بل هى تجادل فحسب فى أعدادهم: مليونا وليس 5 ملايين، لأنها لا «تؤمن» بشمول الصفة لأبناء وأحفاد من طُردوا من أرضهم، وتُقْصر الأمر على من ولد فى فلسطين. وهى تجادل فى خصوصية صفتهم: فلماذا لديهم وكالة خاصة بهم تابعة للأمم المتحدة، عوضا عن أن يندرجوا مثل سواهم من اللاجئين فى أركان الأرض الأربعة (وما أكثرهم) فى «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين». ونعتبر أن وجود «الأونروا» وتجميعها للاجئين الفلسطينيين عوضا عن تفكيكهم، لا يساعد على ايجاد حل سلمى لموضوع «النزاع» الإسرائيلى ــ الفلسطينى. هكذا بكل براءة وموضوعية عقلانية.
مضى وقت منذ أقرت إسرائيل نفسها بوجود الفلسطينيين أصلا. كانت قبل ذلك تسميهم «عربا» وحسب، وتُنكر صفتهم كأحد شعوب المنطقة. تغير الموقف مع ضجيج «الحل السلمى»، وكان لا يضير منحهم اسمهم ذاك مقابل كل ما سيتنازلون عنه، ولاسيما إن لم تكن تترتب على التسمية تبعات؛ إذ بقيت الضفة الغربية «يهودا والسامرة»، والقدس «أورشليم» والخليل «هبرون»، وهكذا، بما يشمل غزة نفسها التى تصير «عزة» فى التسمية العبرية.. تقوم إسرائيل بشكل غير منقطع بتغذية أيديولوجيا يستند بعضها إلى تأويلات للتوراة والدين بينما بعضها الآخر يتم اختراعه بلا توقف، بحيث ضاعت الحدود والفوارق ــ وهذا أحد أهم ميادين اشتغال الصهيونية، وهى الفريدة من نوعها، ما بين حركة قومية حداثية أوروبية عقلانية من جهة، وبنية خرافية تمزج بخلطتها الخاصة الدين والتاريخ والأسطورة من جهة ثانية. تعتد إسرائيل بكل ضريح وأثر لإثبات ملكيتها التاريخية للأرض، وكتجسيد لـ«الوعد الالهى». وحين لا تجد الأثر، تستمر بالنبش وتسيّج المكان الذى يصبح على أى حال ذا صفة قدسية. وبمقابل ذلك، لا تتوانى عن تدمير سائر الآثار والأضرحة باعتبارها «احتلالا» وبدعا. وتعتد إسرائيل والحركة الصهيونية بالمحرقة وتقيم «ياد فاشيم» كنصب لتخليد ذكرى ضحاياها وكمركز أبحاث حولها، وتُلزم كل مسئول أجنبى زائر بالمرور هناك وبتسجيل موقفه فى سجلاتها التى تعدد واحدا واحدا كل أسماء الضحايا. وهناك عشرات جمعيات «أبناء ضحايا المحرقة» تنشط فى أنحاء العالم، وهناك إقرار رسمى عالمى بوجود الحدث وبوجوب احترامه، وكل مسّ به يُعتبر مظهرا لمعاداة السامية يعاقب عليه القانون.
ويفترض ــ فى عالم منطقى وعادل ــ بمن كانت هذه حاله أن يُحْجم عن إنكار «النكبة» (ولكنه هو من صنعها، بينما مُحِقت النازية وحُرِّمت)، وأن يتفهم أن ذرية المنكوبين تتمسك بإحياء الحدث الجلل الذى أصابها.. مع فارق أنه ممتد، أى أن تلك الذرية ما زالت تعيش فى مخيمات اللجوء داخل وخارج فلسطين. ليس فى ذلك وضعا للضحايا ــ أيا كانوا ــ فى مباراة للتنافس على ما هو أفظع، ولكن نوع من التمرين فى المحاجة!
***
وتضيف أنه بعد أن اعتبر ترامب «القدس الموحدة» عاصمة لإسرائيل («إقرارا بالواقع» كما تقول إدارته) ونقل إليها سفارة بلاده، يريد اليوم حلّ الأونروا، وإدماج الفلسطينيين فى مفوضية اللاجئين. وهو قرّر الامتناع عن دفع حصة واشنطن من ميزانيتها (تعادل ثلث هذه الميزانية) إخضاعا للأمم المتحدة وإفشالا لممانعتها. ويقول أيضا إنها فاسدة! وهى تتولى تعليم أكثر من 5 ملايين طفل وتتولى خدمات إغاثة هذا «المجتمع» فى الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وغزة.
تعتبر إدارة ترامب هذه الخطوة ضرورية وشرطا لازما لـ«حل» المسألة الفلسطينية، وأن عرقلة هذا الحل تنبع جزئيا من عدم التصدى لها.، فالأونروا أنشِئت مستندة لقرار الأمم المتحدة رقم 194 الذى يكرس حق عودة اللاجئين إلى ديارهم والأماكن التى طردوا منها. وفى هذا كفرٌ ما بعده كفر، ولا بد من اجتثاثه!
يقال إن «المنتصر يكتب التاريخ»، أى يرويه كما يريد. والحقيقة أن المهيمِن والطاغى هو من يكتب تلك الرواية (ولو شئتم اعتبار ذلك انتصارا فهو تكريس مضاعف للوحشية). اعتدنا على تسمية السكان الأصليين للقارة الأمريكية ــ وهم كانوا ملايين شديدى التنوع، وكانت لبعضهم، كـ«ألانكا» و«الأزتيك»، حضارات كبيرة ومتقدمة ــ تسميتهم «الأباشي» أو الهنود الحمر. وأما الأباشى فمشتقة من كلمة اسبانية تعنى «السفلة»، وأما «الهنود الحمر» فتكرس حماقة المستعمرين الأوروبيين حين عَثَروا بالقارة الجديدة فظنوها الهند التى كانوا يقصدونها فى رحلتهم، ولم يكلفوا خاطرهم تصحيح الخطأ بل أمعنوا فيه بكل تعالٍ. واعتدنا على رؤية السكان الأصليين لأمريكا كمتوحشين قتلة بينما الرجل الأبيض يحاول تحضيرهم.. واعتدنا على رؤية الغربيين لنا وفق أوصاف وصفات ومظاهر وأشكال دونية أو مذلّة ومتخيلة بكل الأحوال، نشرها الاستشراق بالكلمة واللوحة. وما زلنا نرى تلك الصورة فى أفلام حديثة، وفى التعامل اليومى مع مجتمعاتنا. ولم يخطر ببال أحد أن يحاسب الأمريكان وحلفاءهم على فعلتهم فى العراق على سبيل المثال.. وما زال الفرنسيون يرفضون الاعتذار عن جرائمهم فى الجزائر.. وهكذا.
فمع من تقفون؟ هذه قصة واحدة بفصول متعددة. مع من تقفون؟
النص الأصلى: