يقع مشروع مبنى المكتبة العامة فى مدينة القصير الذى تبنيه محافظة البحر الأحمر بتمويل جزئى من مكتبة مصر العامة (مؤسسة غير حكومية) وهى من سيدير المكتبة (المؤسسة تدير العديد من المكتبات فى مصر) فى قلب المنطقة التاريخية فى مدينة القصير وفى مواجهة ميناء الصيادين والشاطئ العام للمدينة.
بدايات المشروع أخذت فى الظهور كأعمدة خرسانية ومبانٍ بارتفاع منخفض فى بداية هذا الصيف وحين رأيت تلك البدايات توقعت مشكلة كبيرة. وما لبثت المشكلة أن اتضحت بعد اطلاعى على الرسومات البسيطة للمشروع حيث إن المبنى طبقا للخطة الأولى كان سيضر ضررا كبيرا بالمبانى التاريخية المجاورة وهى مسجلة كآثار كما أنه بالفعل فى خلال البناء الأولى تم هدم خزان مياه أثرى (ولكنه للأسف غير مسجل) كما يتم التعامل بصورة غير مسئولة مع مبنى آخر أثرى (مبنى مكثف المياه المبنى منذ أكثر من مائة وعشرين عاما) ولكنه أيضا غير مسجل.
قدرنا فى الجامعة أن التدخل الآن قبل أن ينتهى المبنى ويتم إهدار المال فى عمل ما لا يليق بتلك المنطقة هو أفضل الخيارات بدلا من أن ننتظر ثم نندب حظنا فى عدم الاهتمام الكافى بدراسة مثل تلك المشروعات الموجهة لخدمة المجتمع وخاصة تلك التى تقع فى المناطق التاريخية بصفة خاصة. وقدرنا أيضا أننا نتدخل من وجهة نظرنا كمؤسسة حكومية شبه مستقلة تقوم بتعليم وتدريب مهندسى المستقبل وأيضا تقديم النصح لمؤسسات المجتمع سواء الحكومية أو غيرها.
***
تقدمت باقتراح لتعديل الرسومات باعتبارى أحد العاملين فى مركز هندسة الآثار والبيئة فى كلية الهندسة جامعة القاهرة ووافق عليه محافظ البحرالأحمر بعد حصوله على وعد من أحد كبار المستثمرين العاملين فى منطقة بورت غالب القريبة من مدينة القصير لتمويل الزيادة البسيطة لتكلفة التعديل (تزيد قليلا على نصف مليون جينه تقريبا). وبالرغم من الخطوة الأولى المبشرة والتى تمثلت فى استجابة عظيمة من السيد محافظ البحرالأحمر بالموافقة على اقتراح جامعة القاهرة إلا أنه يبدو أن تحويل تلك الآمال المشروعة بمستقبل أزهى لأولادنا وسكان المدن البعيدة عنا دائما ما تقابله عقبات ليس من أكبرها المال ولكن الذهنية التى تستهين بتاريخنا ومبانى آبائنا وأجدادنا سواء أكانوا مصريين أو إيطاليين أو غيرهم. والقصير هى مدينة نموذج للمجتمع المصرى المتعدد الأعراق والذى تكون تاريخه من قدماء المصريين للرومان والمماليك والعثمانيين والصناعيين الإيطاليين فى بداية القرن العشرين بالإضافة إلى أهل الحجاز وغيرهم ما يمثل مصدر فخر وقوة لتلك المدينة.
للأسف الشديد تجاهل المسئول المحلى بمدينة القصير الرسومات المعدة من قبل جامعة القاهرة (والتى وافق عليها السيد المحافظ) وقاموا بتعديلات عليها دون الرجوع للجامعة. قد لا يستطيع القائمون على مدينة القصير وجهازها الهندسى أن يتخيلوا أن تلك المنطقة التاريخية فى مدينتهم ليست ملكهم فقط لذلك قلت لهم فى اجتماع معهم منذ أسابيع قليلة «أنا ليا فى المدينة دى زى ما انتو ليكو». وشرحت لهم أن أنا هنا مثل كل مصرى لأن التاريخ هو ملك لكل المجتمع فى أى مكان ولا يمتلك أحد فى منطقته حق أن يتعامل معه باستخفاف.
***
كنت آمل أن يكونوا قد تعلموا الدرس من أن ترك المبنى بدون إشراف هندسى كفء وعلى دراية (وهو ما عرضته الجامعة بدون مقابل ليس تفضلا ولكن من باب المسئولية ورغبة فى تكوين تحالف للمصلحة العامة تؤدى فيه الجامعة ذات الكيان شبه المستقل دورا فاعلا فى تنمية مجتمعها والحفاظ على كنوزه) قد يؤدى إلى مشكلات كبرى قد يكون من الصعب والمكلف للغاية تعديلها مستقبلا. ولكن يبدو أن ذلك الدرس ليس من السهولة على الأجهزة المحلية فى القصير وربما فى مناطق عديدة فى مصر أن تتعلمه.
فى اقتراحنا لتعديل ما كان تحت الإنشاء كنا نحاول أن نطبق مفهومنا عن الجمال وأنه ينبع فى أحد أركانه المهمة فى الحساسية فى التعامل مع واحترام الجار وخاصة الجيران هنا من الأهمية التاريخية التى تمثل الذاكرة الجماعية وأن هذه الحساسية هى ما يمكن أن يكون عدلا وأن عدم الحساسية كما يتم حاليا هو الظلم بعينه وهو ما لن نكتفى أن ننتقده أو نهجوه ولكننا عازمون على القيام بما هو أكثر.
لسنا سذجا أو بلغة بعض المسئولين طيبين بـ«الزيادة» ولكننا نصر أن هذا الاجتهاد هو ليس فقط لفائدة مكتبة مصر العامة ولكن أيضا لفائدة المدينة ومجتمعها ولإبعاد الضرر عنهم وعن مبانيهم (ومبانينا أيضا) التاريخية. لن نستسلم بالقطع لكل هذا الإحباط وسنحاول أن نساعد ونحن أيضا فى الحقيقة نساعد أنفسنا كجامعة لإدراك حجم مسئوليتنا وكيف يمكن أن نتعامل معها بواقعية وأيضا نساعد المجتمع ككل لأن الموضوع هو فى جوهر ما يسمى «المصلحة العامة».
ما يتم عمله الآن (إن لم يتوقف على الفور) سيؤدى إلى بناء مبنى مشوه ليس أهم مشكلة فيه أنه يعتدى على الملكية الفكرية للجامعة ولكن لأن المبنى إذا استمر على المنوال الحالى سيكون مسخا لا يحترم المنطقة التاريخية بالمدينة بل سيضر بصورة مباشرة بأى مشروعات لإعادة استخدام المبانى التاريخية المجاورة وخاصة مبنى الديوان ومبنى الشونة ومبنى مسجد الفران وسيخفض من القيمة الثقافية والجمالية والاقتصادية للمنطقة بصورة يكون الخاسر الأكبر فيها هو مدينة القصير ومواطنوها.
كتبت سابقا هنا «من العظيم والرائع أن تكون المكتبة العامة هى المشروع الرائد فى المنطقة التاريخية فى مدينة القصير (ونتمنى أن تكون كذلك أيضا فى مدن مصرية عديدة) ولكن التعامل مع ذلك المشروع يتطلب الكثير من الحساسية لمحيطه المباشر».